جاء فيلم “نظرية كل شيء” على قدر كبير من الصدق والتأثير، وهو من إخراج البريطاني جيمس مارش، وبطولة إيدي ريدماين، وفيليسيتي جونز، وتشارلي كوكس، وإميلي واتسون. وتتجاوز مدة عرضه الساعتين تقريباً. كتب له السيناريو الروائي والسيناريست أنتوني ماكارتين، والسيناريو مأخوذ عن مذكرات جين وايلد، زوجة ستيفن هوكينغ، التي صدرت بعنوان “السفر إلى اللانهاية: حياتي مع ستيفن”، في أكثر من أربعمائة وخمسين صفحة، في نهاية عام 2013.
يتناول الفيلم قصة حياة، ستيفن هوكينغ، العالم الفذ في مجال الفيزياء النظرية وعلم الكون، وصاحب أحد أشهر وأهم وأكثر الكتب مبيعاً على مدى عقود حتى يومنا هذا، وهو “تاريخ موجز للزمن”، وذلك منذ شبابه في أوائل الستينات، حيث كان يسعى من أجل التسجيل للحصول على درجة الدكتوراة في جامعة كامبريدج. والفيلم يستمد عنوانه من بحث هوكينغ الدؤوب عن معادلة واحدة كونية تمثل الوجود برمته، وتجمع بين ميكانيكا الكم والنسبية العامة.
يسلط الفيلم الضوء على الدراما البشرية المعقدة، والأفكار العلمية الكبيرة، والتأمل في الحياة والكون. وذلك من دون أن يسقط في أفخاخ تزعق بالتمسك بالأمل والنضال لآخر نفس والصبر والتحمل وتحدي المستحيل إلى آخر كل تلك الأمور، التي بوسع المتلقي أن يستشفها من الفيلم من دون مباشرة فجة أو اللعب على عواطفه واستدرار مشاعره.
أحداث الفيلم
سريعاً يدخلنا الفيلم إلى حياة هوكينغ الجامعية، وغرامه بحبيبته وزوجته جين وايلد، التي تدرس شعر العصور الوسطى في شبه الجزيرة الإيبيرية. ثم بدايات مرض ستيفن، وطبيبه الذي يخبره بأنه لن يعيش لأكثر من عامين -لا يزال على قيد الحياة حتى يومنا هذا، في الثانية والسبعين من عمره- . ثم إصرار جين على الزواج من ستيفن حب حياتها وإنجاب أطفال منه، وتحملها بمفردها طوال الوقت لأعباء زوجها والأطفال التي تفوق طاقاتها بكثير، ومن ثم تعطل حياتها الدراسية والجامعية. واستمر زواجهما لمدة تجاوزت الخمسة وعشرين عاماً تقريباً حتى انتهى بالطلاق في عام 1995.
وبالرغم من زمن الفيلم الطويل نسبياً وتخصيصه الجزء الأكبر منه لرصد الحياة الزوجية والأسرية بين ستفين وجين، إلا أن الكثير من التفصيلات الدقيقة في ثنايا تلك العلاقة التي امتدت لأكثر من عقدين لم يتطرق إليها الفيلم أو يبرزها لنا على نحو جلي، بحيث بدت حياتهما في الفيلم كلها على نحو شديد المثالية واللياقة واللباقة. فتشعر رغماً عنك أنك أمام شخصيات غاية في المثالية، ليست من كوكبنا. وكأن تسليط بعض الضوء على مثالب الشخصيات وإبراز نقاط ضعفها يقلل من جوانبها القوية المشرقة. وقد ألقى هذا بتبعاته لاحقاً عندما وصل الفيلم لتناول مرحلة انفصالهما.
حتى عندما تطرق الأمر على فترات متباعدة للاختلاف الوحيد الظاهر لنا بين شخصيتيهما، حيث يقف ستيفن على النقيض التام من الإيمان بالله وجين الشديدة الإيمان والتدين وحتى الذهاب إلى الكنيسة والانخراط في الكورال الكنسي والتدرب على الغناء في الجوقة، فإنه يمر عليه مرور الكرام دون أن يعمقه. وفي نفس الوقت، وحتى منتصف الفيلم تقريباً تُسرد الأحداث أكثر من وجهة نظر ستيفن، مع التركيز على حالته وتفاصيلها، ولا تتحرك الأحداث وتنقل لنا جانباً مغايراً بعيداً بعض الشيء عن حياتهما إلا بعدما يظهر في الصورة “جوناثان” (تشارلي كوكس)، ذلك الشاب الوسيم الأرمل الذي لديه فسحة من الوقت ولا يفعل في حياته الكثير خلا تدريب جوقة الكنيسة على الغناء الكنسي.
وبعد فترة يتبين لنا أن دخول ذلك الخط الدرامي الخاص بجوناثان كان ضرورياً من أجل إبراز العلاقة الواقعية بين جوناثان وجين، والتي تطورت من كونها مجرد علاقة أفلاطونية في البداية، وصداقة للعائلة ومساعدة لستيفن، إلى مشاعر متبادلة بينه وبين جين ثم حب وعلاقة تامة، حاولا إيقافها لضرورات واعتبارات اجتماعية وأخلاقية. لكنها ما لبثت أن عادت وكللت فيما بعد بالزواج بعد انفصال ستيفن وجين، عقب انجذابه إلى ممرضته الجديدة.
وليس ثمة شك في أن دخول جوناثان، ولاحقاً الممرضة “إلين مايسون” (ماكسين بيك)، إلى حياة كل منهما، أفسح المجال لقدر لا بأس به من التشويق والإثارة وأضفى على الفيلم الكثير من الحيوية، وأكسب الشخصيات نفحة إنسانية أخرجتها من نمطيتها وتطهرها. وقد تزوج ستيفن من ممرضته “إلين مايسون” (ماكسين بيك) في نفس عام طلاقه من جين وايلد، وما لبثا أن تطلقا أيضاً في عام 2006.
روعة الأداء
أما أداء الممثل الشديد التميز إيدي ريدماين، والذي استحق عنه بجدارة جائزة الأوسكار لأحسن ممثل هذا العام 2015، فقد جاء على نحو شديد الفنية والرقي ولم يخفق أبداً في إقناعنا بأنه بالفعل، شكلاً وجسداً وروحاً، العالم البريطاني الشهير. وذلك بداية من جموح ستيفن ورشاقته وخفة دمه كشاب في مقتبل الحياة، وأيضاً ولعه بالعلم والدراسة وفضوله الذي لا يهدأ تجاه التفكير الدائم في تأمل النظريات وحل المحادلات. ثم، تجسيده لمرحلة مرض ستيفن منذ بداياتها الأولى والتدرج في مراحلها حتى جلوسه النهائي على الكرسي المتحرك، ثم فقدانه النطق. وكيف أفلح في تجسد، لا سيما في مراحل المرض المتقدمة، كافة خلجات وقسمات وتقلصات وارتعاشات الوجهه، والأصابع، وكافة عضلات الجسد، إلى جانب صعوبات النطق.
وليس ثمة شك في أن هذا كله قد تطلب منه، إلى جانب البحث والتدقيق والتدريب المستمر لفترات طويلة، قدرة هائلة على التحكم في جسده، بحيث يطوعه كيفما شاء ليؤدي الغرض المطلوب مع كل حركة تصدر عنه، ناهيك أساساً بجلسته الطويلة ورأسه وعنقه في وضع شديد الميل فوق الكرسي المتحرك، والتحكم في عضلات الوجه وفي الفكين بحيث يظل مفتوحاً وشفتيه لأطول فترة ممكنة.
نظرية كل شيء، فيلم سيري شديد النموذجية في كل شيء، وقد آثر المخرج مارش أن يتبع في سرد أحداث تلك السيرة التطور الزمني الخطي، وتجسيد الشخصيات كما بدت عليه في السيناريو أو الكتاب. والسيناريو برغم تقليديته، لكنه يمثل نموذجاً للسيناريو الناجح، فهو يسرد سيرة أحد الأفذاذ، يعيش بيننا ولا يزال يثير الجدال بعلمه ونظرياته وأبحاثه وتعليقاته ومشاركاته العامة في الحياة. وفي نفس الوقت يعرض لمأساة وكفاح وقصة تحدي على قدر كبير من الأهمية والإثارة.
إلى جانب عرضه لقصتي حب تمثلان عاملي جذب إضافيين للفيلم، بالإضافة إلى قدر كبير من اللفتات والمشاهد اللطيفة والمرحة المتناثرة على امتداد الفيلم. وحتى تلك المتعلقة بشرح النظريات العلمية الجافة والتي كان من الممكن أن تُنفِّر المتفرج العادي، عالجها السيناريو بسهولة وبساطة، وجنح المخرج في تصويرها إلى ربطها بالكثير من المفردات العادية في الحياة، مثل رغوة بيضاء على سطح فنجان قهوة أو رقصة جين ضد دوران عقارب الساعة عند ضفة النهر وستيفن يمسك بيدها أو تشابك وتعقد خيوط الصديري الصوف الذي كان ستيفن يحاول أن يرتديه.
وقبل كل هذا وغيره من نقاط القوة بالفيلم، مثل تصميم الملابس والأجواء الإنجليزية في سنوات الستينات، واستخدام المصور المتميز “بينوا ديلوم” للإضاءة الطبيعية في الكثير من المشاهد، وتحركه المتنوع بالكاميرا المحمولة لينقل لنا أجواء الجامعة وقاعاتها وغيرها من المناظر الخارجية التي عكست إلى حد بعيد أجواء الستينات، جاء اختيار طاقم التمثيل على قدر كبير من التوفيق والتميز بطبيعة الحال. فالفيلم بالفعل محمول بأكمله على أكتاف الممثلين، لا سيما صاحب الشخصية الرئيسية إيدي في دور ستيفن هوكينغ، وحتى الأدوار الثانوية كان الاختيار فيها موفقاً إلى حد بعيد. وذلك كله من دون تشتيت الانتباه أو صرف أنظار المتفرجين عن قصة الفيلم أو الموضوع الرئيسي.
ومن بين القليل الذي يؤخذ على الفيلم، مظهر ستيفن خلال سنواته الأخيرة والذي لم يتغير كثيراً منذ أن أقعده المرض، وهو أمر لم يفلح المكياج في أن يقنعنا بمرور وثقل الزمن على ستفين بعد عشرين أو ثلاثين عاماً من مرضه.