- بقلم: فيليب بول
المترجم: تامر صلاح
كانت لدى ديمتري مندلييف DMITRI Mendeleev مشكلة. وبوصفه أستاذا في جامعة سان بطرسبرغ University of St Petersburg بروسيا، كان من المفترض أن يُدرس الكيمياء للطلبة، ليسترشد في هذه المهمة فقد تعاقد مع ناشر روسي لكتابة كتاب دراسي من مجلدين. بحلول يناير 1869 كان قد أكمل المجلد الأول، لكنه لم يغط سوى ثمانية من العناصر الكيميائية الـ36 المعروفة آنذاك. فكيف كان سيحشر الـ55 عنصراً المتبقية في المجلد الثاني؟
من الواضح أنه ما كان له أن يتجول ببطء خلال خصائص العناصر كما كان يفعل في المجلد الأول. وكان يحتاج إلى بعض النظام لترتيب المواد. ولكن هل كان هناك أي نسق للبنات بناء العالم المادي؟
وعندما نعيد سرد قصص العلماء الذين يفكرون في أسئلة كبيرة مثل هذا السؤال، غالباً ما نجعلهم يبدون رومانسيين. فهناك فترة من الصراع والارتباك تنتهي عندما يرى عبقريٌّ وحيدٌ النورَ، ربما في حلم اليقظة أو المنام. وقتئذٍ يقع كل شيء في مكانه، ويتبدل النموذج الفكري، ولا يعود شيء يظهر كما كان عليه من قبل. كم يبدو هذا نبيلاً مقارنة بالمحاولة اليائسة للالتزام بالموعد النهائي للناشر.
تحاول بعض روايات كيفية ابتكار مندلييف الجدول الدوري جعله ملائماً لهذا القالب الرومانسي. فيزعمون أن الروسي، أصلاً من مدينة توبولسك Tobolskالنائية في سيبيريا، كان مهووسًا بإيجاد بنية بين العناصر ووضعها مكتوبة على بطاقات، مثل لعبة سوليتير. فجَرب كل أنواع الترتيبات دون نجاح، وتكمل القصة قائلة، إلى أن خلد إلى النوم، منهكاً من الدراسة في فبراير 1869.
«رأيت في المنام جدولاً سقطت فيه كل العناصر في مكانها كما هو مطلوب»، هذا ما ذكر في وقت لاحق أنه قاله. وعند استيقاظه كتب على عجل ما رآه في المنام، وبعد أسبوعين نشر كتاب النظام المقترح للعناصر Suggested System of the Elements. أخيرًا، أصبح هناك معنى لقائمة عناصر المواد المتزايدة بثبات من الهيدروجين إلى الرصاص.
وقال مندلييف إن هذا المعنى هو في الأساس كما يلي: إذا رتبت العناصر وفقًا لوزنها الذري Atomic weight – كم تزن كمية ثابتة من كل عنصر بالنسبة إلى الأخف، الهيدروجين – فإن خصائصها تتكرر على فترات منتظمة. لذلك يمكنك كتابة قائمة العناصر كجدول، مع أعمدة من العناصر التي تشترك في سمات مماثلة.
وهذا النمط لا يزال أساس الجداول الدورية الحديثة، لكن رواية الكيفية التي اكتشف بها مندلييف رواية ضعيفة وقيد الفحص. خذ الحلم. «أنا لا أصدق ذلك،» يقول مؤرخ العلوم مايكل غوردين Michael Gordin من جامعة برينستونPrinceton University، وهو خبير في حياة مندلييف وعمله. «المصادر مشكوك فيها جدا». فلم يذكر مندلييف قصة الحلم قطُّ، بل قالها زميل بعد 40 سنة. حتى ذلك، من الممكن أنه كان يعني ببساطة شيئًا مثلا حلم اليقظة، كما يقول غوردين. ويضيف أن مندلييف نفسه أكد أن اكتشافه «كان نتاج البصيرة والمعرفة الكيميائية.» لكن غوردين يعترف بأنه «يبدو أن الناس يحبون هذه القصة، لذلك لا أعتقد أن دقة مؤرخينا ستسحقها في أي وقت قريب.»
على أي حال، لم يكن هناك ترتيب مثالي للجدول يفسر كل المعرفة المعروفة. فمن جهة، فإن ترتيب مندلييف للعناصر حسب الوزن الذري ليس هو ما نستخدمه حاليا. وكانت الأوزان الذرية تستخلص عن طريق التجربة: عن طريق فصل المركبات الكيميائية إلى العناصر المكونة لها ووزن مقدار كل منها. غير أن الترتيب الأكثر جوهرية يأتي من العدد الذري لكل عنصر، عدد البروتونات Protons الموجودة في نوى ذراتها. وفي منتصف القرن الـ19، لم يكن أحد متأكداً مما إذا كانت الذرات حقيقية، وكان مندلييف نفسه متشككًا.
حتى الأوزان الذرية كانت متنازعاً عليها. فعلى سبيل المثال، يتحد الأكسجين والهيدروجين لتكوين الماء بنسبة ثمانية أجزاء إلى جزء واحد، لكن هل يعني ذلك أن جزيئات الماء تحتوي على أعداد متساوية من ذرات الهيدروجين والأكسجين، مع كون الأكسجين أثقل ثماني مرات، أم أن عدد ذرات الهيدروجين يكون ضِعْف ذرات الأكسجين، وبهذا يكون الأكسجين أثقل بـ16 مرة ؟ ( في الواقع العبارة الثانية هي الأصح، فالصيغة الجزيئية هي H2O.)
في الواقع، كان الدعم المتزايد لصيغة H2O للماء هو الذي ساعد مندلييف على ترتيب العناصر بشكل صحيح. لكنه كان بحاجة إلى التصرف بقدر من عدم التقيد لضمان أن العناصر ذات السلوك الكيميائي المماثل تقع في المجموعة نفسها. فعلى سبيل المثال، قرر إعطاء أكسيد البريليوم الصيغة BeO، بدلاً من (كما اعتقد معظم الناس) Be2O3، لإدخال البريليوم في عمود المغنيسيوم نفسه، والذي يبدو أنه يشبهه. وقد ثبت لاحقاً أن مندلييف كان على حق في الصيغة. وبهذه الطريقة وغيرها من الاختلافات الصغيرة، فإن جدوله هو مثال على سيادة الفكرة على البيانات المتاحة؛ مما يتحدى الرأي العام السائد في العلوم بأنه إذا كانت فرضيتك لا تتوافق مع البيانات، فيجب عليك تجاهلها، بغض النظر عن مدى كونها فكرة أنيقة.
وحتى لو كان جدول مندلييف إنجازاً رئيسيًّا، فإنه لم يكن نتاج الوحي الخالص. ففي عشرينات القرن التاسع عشر كان الكيميائي الألماني يوهان فولفغانغ دوبيرنر Johann Wolfgang Döbereiner قد أنجز شيئاً مماثلاً ، من خلال تجميع العناصر المتشابهة كيميائيًّا في مجموعات من ثلاثة، أطلق عليها “الثلاثيات” Triads. وفي وقت مبكر من خمسينات القرن التاسع عشر وستيناته قام آخرون، بما في ذلك وليام أودلينغ William Odling وجون نيولاندز John Newlands في المملكة المتحدة وألكسندر إميل بيغوير دي تشانكورتوا Alexandre-émile Béguyer de Chancourtois في فرنسا وجوليوس لوثار ماير Julius Lothar Meyer في ألمانيا، بوضع ترتيبات للعناصر المعروفة في عائلات. وعمل ماير على ترتيب الجدول الدوري بحلول عام 1868، لكنه لم ينشره إلا بعد عام من مندلييف.
«القائمة المتزايدة باطّراد من عناصر المواد صار لها في النهاية معنى.»
لم يكن هذا العمل سرًّا، على الرغم من أن مندلييف أصر فيما بعد على أنه لم يكن على علم به. ويقول الكيميائي إريك سكري Eric Scerri، من جامعة كاليفورنيا University of California في لوس أنجلوس، وهو خبير بارز في الجدول الدوري: «يبدو هذا غريباً بعض الشيء.» وتبع ذلك خلافات حول من توصل إلى ذلك أولاً؛ مما يجعلك تتساءل عما إذا كان الحلم مجرد وعاء مناسب.
أخيرًا، فإن القصة القائلة إنه بفضل الجدول الدوري لمندلييف تغير فهم أقرانه هي قصة غير ذات مصداقية. إذ انتبه بعض العلماء للجدول الدوري، من مثل الكيميائية الروسية جوليا ليرمونتوفا Julia Lermontova، وحاولوا ترتيب العناصر من خلال تحسين طرق الفصل والتوصيف. ولكن لم يكن هناك تبدل مفاجئ في النموذج الفكري. ويقول غوردين: «في البداية، لم تكن هناك ردة فعل كبيرة على الجدول الدوري.»
بدأ الفضول حول جدول مندلييف بالنمو بعد ستة أو سبعة أعوام فقط من نشره، عندما اكتشف الكيميائي الفرنسي بول إميل ليكوك Paul- émile Lecoq عنصر الغاليوم Gallium. وتلاءم ذلك مع تنبؤات مندلييف بوجود عنصر أثقل من الألمنيوم Aluminium بالوزن الذري 68، وهو عنصر ترك خانة له في جدوله، مع إعطاء الاسم المؤقت إيكا-الألمنيوم eka-aluminium. ويبدو ظاهريًّا أن لوكوك- من منطلق وطني- أطلق عليه اسمه المشتق من الاسم اللاتيني القديم لبلدته غاليا. ولكن يشتبه- على نطاق واسع- في أن الاسم كان أيضًا نوعًا من الإعلانات الذاتية السخيفة؛ لأن الكلمة اللاتينية غالوس Gallus تعني ديكاً صغيراً، وهو معنى le coq باللغة الفرنسية.
وفي عام 1886 اكتشف عنصراً آخر تنبأ به مندلييف، وهو العنصر المسمى إيكا سيليسكون eka-silicon، وسمي الجرمانيوم Germanium.. وهذه القدرة على التنبؤ هي ما مَيَّز جدول مندلييف عن الجداول السابقة.
«تزايد الفضول حول الجدول مع ملء بعض الفجوات.»
ومع ذلك، استغرق الاعتراف وقتاً طويلاً قبل تحققه. وقد يكون هذا بسبب سلوك مندلييف غريب الأطوار: شعره الطويل، لحيته الجامحة وحدة الطبع المزعومة. ووصفه الكيميائي البريطاني ويليام رامزي William Ramsay، الذي قابله في لندن عام 1884، بأنه غريب الأطوار، «كانت كل شعرة في رأسه تتصرف باستقلال عن الأخرى.» ولكن بعد أن تحدثت إليه بألمانية ركيكة، وجد رامزي – الذي في أضاف نهاية القرن إلى الجدول الدوري عموداً كاملاً من الغازات النبيلة – مندلييف «شخصا لطيفاً».
وعلى الرغم من أن حكايات اختراع مندلييف للجدول الدوري قد تكون خيالاً أكثر منها حقيقة، فإن هذا لا ينتقص من أهمية الجدول. فقد كان الترتيب الأكثر شمولية للبنات بناء المادة، ومن دون قصد، أشار إلى القواعد الكمّيّة الأساسية Quantum rules التي تحكم تكوين الذرات وخصائصها. وساعد الجدول على توحيد الكيمياء والفيزياء، وكشف عن جانب عميق من تصميم الطبيعة. فقط لا تحاول الادعاء بأننا توصلنا إلى ذلك في حلم.
© Copyright New Scientist Ltd.
جدول ماندليف – الجدول الدوري للعناصر الكميائية
القصة الحقيقية لميلاد الجدول الدوري، قبل 150 سنة