مصر هكذا حفر “الصنايعية” حكاياتهم على رقعة النحاس
عندما تسير في دروب شارع المعز، ستقودك أذناك إلى مصدر طرق متواصل ومنظم في ذات الوقت، لتجد أنه قادم من محل عتيق، بحارة الدرب الأصفر.
رجل اشتعل الشيب في رأسه، بملامحه المصرية الوديعة، يجلس على كرس، وأمامه منضدة خشبية وقطعة نحاسية تستسلم لمطرقته.
بيومي محمد تهامي، صاحب الـ68 عامًا، أو كما يلقب الشيخ بيومي، واحد من أشهر وأقدم نقاشي النحاس بشارع المعز، إذ بدأ مهنته في عمر الـ12 عامًا، كصبي بإحدى الورش، التي أصبحت ملكه بعد عشر سنوات.
يقول “الورشة كانت وش السعد عليا دخلتها صبي، وبقيت أوسطى فيها، وكان إيجارها 25 جنيه، فقررت بعدين اسيبها عشان ارتفاع الأجرة اللي كان كبير وقتها”.
العم بيومي لا يجيد القراءة ولا الكتابة، لكنّه موهوب في الرسم، يجيد تحويل قطعة نحاس إلى لوحة فنية بارعة الجمال.
تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.
“الشغلانة دي خلاص راحت عليها” هكذا يردد الشيخ بيومي بنبرات حزينة على الحال الذي وصلت إليه حرفته التراثية، بعد أن كانت واحدة من أكثر الحرف رواجًا في مصر، وأحد مصادر جلب العملات الأجنبية لمصر.
يتابع الرجل السيتيني “أنا بفتح الورشة دي- رغم وقف الحال- لأني بعشق الشغلانة، لدرجة إني بأخد المعاش 700 جنيه، بدفع بيهم إيجارالورشة “لا بطول أبيض ولا أسود منها”.
أكثر ما يعاني منه أصحاب مهنة “النقش على النحاس” هو ارتفاع أسعار المواد الخام، من 12 إلى 180 جنيهًا للكيلوجرام الواحد.
عم بيومي يعتز بتكريم حصل عليه قبل سنوات طويلة، يقول ” الرئيس السابق مبارك منحني لقب فنان وخبير، وأوصى وزير السياحة أن أشارك بمنتجاتي في المعارض الدولية، فحضرت عدة معارض في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا”.
يتابع بيومي: في إيطاليا عرض علي عمدة ميلانو تنظيم ورش عمل لتعليم الشباب هناك، إلى جانب عرض منتجاتي في مزاد، ودا مثال إن “الغرب والأجانب بيقدروا شغلنا، أنا منتجاتي النحاسية لفت العالم وموجودة في بيوت الأجانب لكن في بلدنا للأسف محدش بيقدر الفن ده”.
تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.
يعتبر بيومي نفسه واحد من الذين أسعهموا في تطوير النقش على النحاس، فقد أدخل على الرسوم طابع القصة، بمعنى سرد حكاية في كل لوحة يرسمها- غالبًا ما تكون قصة فرعونية- بدل الرسومات الصماء غير المعبرة، ما يضفي على رقعة النحاس حرك وروح، بحسب قوله.
يقول بيومي: بمثل هذا الأسلوب في النقش، صممت هرمًا نحاسيًا في أمريكا طوله 6 أمتار، يروى كل حجرمنه قصة فرعونية، فقد تخصصت فى الرسم الفرعوني والكتابة الهيروغليفية والخط العربي، وأصنع هذه الأشياء “بالطلب”.
المحاولات الصينية لتقليد البضاعة المصرية في النقش على النحاس، خسرت فنيًا، لكنها كسبت لرخص ثمنها، يقول بيومي: المكن ميعرفش يعمل الفن اللي بنعمله، لأن دي حرفة محتاجة روح ومهارة مش آلة.
يتابع “عشان كدا نفسي يكون فيه اهتمام عشان الفن دا يستمر، وتقدمت بطلب أكتر من مرة عشان يعملوا مدرسة حرفية أو ورش لتعليم الأجيال الجديدة تلك المهنة، عشان تراثنا ما يتنسيش لكن بدون فايدة”.
في درب هرمز يجلس محمود صبيح، صاحب الـ80 عامًا، أمامه “الشيشة” وبيده ريموت التلفزيون في ورشة خالية من البضاعة، وعلى جدرانها صورًا له أيام شبابه وذكرياته، يقول: هذه أطلال الشغلانه التي تركتها منذ أربع سنوات بعد تدهور السياحة وغلاء مواد الخام.
يقول صبيح: اشتغلت الشغلانة دي وأنا عندي أربع سنين في ورشة بـ”الخان”، كنت صبي بس “كسيب”، كنت أقبض أحسن من الموظف، كان خير الشغلانة كتير، لكن دلوقتى سبتها عشان مش جايبه همها، المواد الخام غليت ومفيش سياح تشتري.
يتابع صبيح: “على الرغم من كبر سني، إلا أني مازلت بصحتي، وأقدر أكمل، بس خلاص راحت عليها وأصاحبها سابوها، واشتغلوا في حاجات تاني عشان يعرفوا يعيشوا”.
يتذكر العم صبيح الوفد الألماني الذي عرض عليه العمل في برلين، لكنه رفض ترك بلده وأبنائه “مكانش ينفع اسيب عيالي”.
يتابع “الشغلانة دى محتاجة دعاية من الحكومة عشان تتسوق كويس، والسياحة ترجع وتستقر زي الأول، الصين دلوقت بتقلدنا بس بتستخدم النحاس الخفيف، لكن شغل النحاس التقيل الأصلي المنحوت عليه متقدرش تقلده
محمود الدسوقي

رحل عن عالمنا،  في ساعات متأخرة من مساء أمس، الشيخ بيومي تهامي، شيخ طائفة الرسم والنحت علي النحاس، وآخر حرفي ينقش الرسم المصري القديم علي النحاس، عن عمر ناهز الـ 69 عامًا.

كان الشيخ بيومي يمثل ظاهرة ثقافية مصرية في عالم الحرف التراثية، وهي الظاهرة التي جعلته يلقب بعدة ألقاب منها: الخبير، والشيخ، والسفير، وغيرها من الألقاب، خاصة بعد ابتكاره لأشكال جديدة والتوسع في استخدام اللغة الهيروغليفية.

وعمل بيومي، وهو ابن محافظة الشرقية، في مهنة النقش علي النحاس والفضة  في حي الجمالية العتيق بالقاهرة، منذ أن كان عمره 12 عامًا حيث كانت تطاوعه القطعة النحاسية مستسلمة لأدواته الحرفية القديمة التي يوظفها بمهارة فائقة، وهي المهارة التي جعلته يشارك في المعارض الدولية ويعجب بها الرؤساء والملوك، وقد تشرب المهنة من أسطوات المهنة القدامي، وقد ابتكر في النقش وأتقن الخط الهيروغليفي رغم أنه لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة.

ويقول مصطفى كامل، صاحب مبادرة “يلا علي الورشة”، المهتمة بتوثيق الحرف التراثية المصرية، في تصريح لــ”بوابة الأهرام”، إن الشيخ بيومي من أمهر الأسطوات، حيث كان يمتاز بالطيبة والتدين، مؤكدًا أن موهبته لم تقتصر موهبته على النحاس ولكن امتدت للنقش على الفضة والذهب، والرسم المصري القديم والقبطي والإسلامي، مؤكدًا أنه لكونه ظاهرة فريدة في مهنة النقش علي النحاس كان نجما دائما علي الصحف والقنوات الفضائية التي أجرت معه الكثير من الحوارات عن هذا الفن المصري الأصيل.

وأوضح كامل أن ورشة الراحل الشيخ بيومي، والتي وثقتها المبادرة، حيث أتقن الراحل صنع ورسم حاشية الملوك القدامي مثل توت عنخ آمون ورمسيس الثاني وغيرهم، وابتكر هرمًا من النحاس ويتم فكه وتركيبه، بالإضافة للكثير من الأعمال الفنية في حرفة النقش على النحاس التي تواجه الانقراض وكذلك رحيل الجيل الذي كان يتقن الصنعة بدون أي تكنولوجيا.

النقش على النحاس" و"الأركت" و"الخيامية".. مهن مصرية أصلية تحارب الانقراض -  اليوم السابعجولة داخل أقدم ورشة لتصنيع وتبييض النحاس فى القاهرة - اليوم السابعبوابة روز اليوسف | أقدم ورش النحاس: "الحرفة تنقرض"فيديو| «النقش على النحاس» حرفة بين الحياة والموت في شارع المعز | مصر العربيةالتطور قطع رزقهم .. تعرف عليهمصور|عم شعبان.. المهنة "نحّاس".. والرزق على الله‎مهنة منقرضة تعود للحياة في سوق النحاسين بحلب السورية (فيديو وصور - Sputnik  Arabic
حرفي سوري ينقل مهنة تبييض الأواني إلى الأردن - المدينة نيوز

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.