أن نثق بما نراه.. كيف غيرت الفوتوغرافيا التاريخ؟ (الحرب) الخميس 04/فبراير/2021 – 10:12 م
ثمة مقولة للإمام علي تقول “الباطل ما سمعته بأذني والحق ما رأيته بعيني”، لكن تُرى، في زمن الحرب والنزاعات العرقية والصراعات السياسية، يمكن أن يتحقق صدق المقولة السابقة؟
منذ نشأت الفوتوغرافيا، والصورة تفرض سطوتها في كل مجال، الصور هي وسيلة إدراكنا العالم.
لا شك أن الناس أكثر ارتباطا وتعلقا واستعدادا لتلقي وفهم الصور عن الكلمات والأصوات. تجمد الفوتوغرافيا لحظة محددة من الزمن، مما يؤكد اللحظة ويخلدها للأبد فالصور أكثر عمرا مما تجسده، وتتواصل (اللحظة المجمدة) مع المشاهد الذي يراها، من هنا تكتسب الفوتوغرافيا تأثيرها، هي صورة ثابتة تجبر من يشاهدها أن يدقق ويلاحظ فالصور الفوتوغرافية لا تتحرك كالصور التليفزيونية فتجبرك أن تنتبه.
وفقا للطريقة التي ندرك بها الصور تنشأ عدة تساؤلات، هل يمكن لصور الحرب أن تؤثر على الرأي العام وتخلق الوعي الجمعي وتحفز الناس لإيقاف الحرب أو بدئها؟
في الماضي، كان الناس يميلون إلى اعتبار الحرب بطولة، لأن الحروب كانت تهدف للتوسع الاستعماري أو استكشاف أراض جديدة أو الدفاع عن الأرض والحرية. كان الرسامون قبل اكتشاف الفوتوغرافيا يجسدون ساحة المعركة في شكل لوحات تقدم الحرب بأسلوب بطولي أو رومانسي، فنرى عادةً في هذه اللوحات، حصانًا قويًا متأهب للحركة يمتطيه فارس قوي يتربص بالعدو، أو يحمل راية تعبر عن النصر أو الحرية، وغالبا لا تصور هذه اللوحات أي دم أو قتلى أو هزيمة.
مع ظهور الفوتوغرافيا وانتشارها في بدايات القرن العشرين، كانت الحكومات تستخدم صور الحروب، بشكل أساسي للدعاية، لم تكن تسعى للتوثيق أو حفظ التاريخ. على سبيل المثال استخدمت الصور الدعائية بكثرة، في بداية الحرب الأهلية الإسبانية ( 1936-1939 ) من قبل كل من القوميين والجمهوريين لتجنيد الناس لقضيتهم، رغم ذلك يمكن اعتبار الحرب الأهلية الإسبانية هي المحفز الأساسي لظهور أكثر صور الحرب دراماتيكية وتأثيرا في المئة عام الماضية.
يعود الفضل لروبرت كابا في التقاط أول صور فوتوغرافية في التاريخ توثق المعركة، تعتبر صورته “موت رجل من الميليشيا الموالية” (1936) وهي الصورة الأكثر شهرة في الحرب الأهلية الإسبانية، من بين أكثر الصور الفوتوغرافية تأثيرا ولفتا للحرب وآثارها، إذ تقدم للرأي العام العالمي الوجه القذر للحرب.
إن ما يجعل تلك الصورة واحدة من أفضل صور الحرب المشهود لها في القرن العشرين، هي تلك اللحظة غير العادية التي التقطتها كابا، فالصورة تجسد الميليشيات الموالية على حقيقتهم هم أشخاص عادية ليسوا أبطالا، نرى في الصورة إنسان طبيعي مثلنا، وكم هو منكسر عاجز.
كانت حرب فيتنام حربا أخرى مهمة في تاريخ التصوير الصحفي، إذ غيرت النظرة لدور المصورين الصحفيين وطدت علاقتهم بالمجتمع وجعلت علاقتهم مع مراكز القوة وصنع القرار أكثر اضطرابا وصنفوا على أنهم خصوم أقوياء.
قدم المصورون صورًا تتعارض مع التوجة الرسمي، حيث انحرفت تقاريرهم وصورهم عن التأكيدات الرسمية للحكومة وهدمت شرعية الحرب التي رعاها الأمريكيون بدلًا من توثيق المثل العليا الأمريكية عن الجنود الأبطال،وقد أكدت العديد من الصور الفوتوغرافية من فيتنام وجهة نظر مقلقة وصادمة للمجتمع الأمريكي، كصورة فيتنام الشهيرة للفتاة التي أحرقها النابالم، وأرملة حزينة تبكي فوق جسد مجهول الهوية.
أصبحت صورة جنرال فيتنامي جنوبي ينفذ إعدام سجين في أحد شوارع سايجون من أكثر الصور شهرة وتأثيرا. تبرز الصورة تعبيرات الوجه بوضوح وقوة، في حين أن لقطات الفيديو لنفس الحدث أكثر فوضوية. فازت الصورة بجائزة بوليتزر لتصوير الأخبار 1969، يقول المصور إدي آدمز: “لا تزال الصور الفوتوغرافية هي أقوى الأسلحة في العالم، فبالرغم من كل ما كتب ووثق عن تاريخ حرب فيتنام، سيكون التاريخ هوفقط الصور الباقية لدينا”.
كانت فيتنام أول حرب لم يتعرض فيها الصحفيون للرقابة الرسمية، ويعزى ذلك إلى أن الحكومة الأمريكية، لم تعترف بفيتنام باعتبارها حربًا رسمية. رأى الأمريكيون بفضل المصورين أول حرب تنقل تلفزيونيا وتقتحم غرفهم وحياتهم المسالمة، وفقا لكتاب الصحفي جودفري هودجسون، بعنوان “أميركا في عصرنا”، فإن صورة آدمز في فيتنام كانت نقطة تحول في الحرب، لأنها تزامنت مع إنقلاب الرأي العام الأمريكي، وربما ساعدت في إحداث ذلك وأظهرت وحشية الحرب في فيتنام بقوة لدرجة أن الأميركيين تساءلوا عما إذا كانوا يريدون أن يكونوا جزء منها.
بفضل صور حرب فيتنام توسعت التغطية الإعلامية للحرب ولعبت دورًا مهيمنًا في تشكيل الرأي العام ووجهت الحركة المناهضة للحرب الشعب الأمريكي ضد الحرب، فتحول موقفه من مؤيد، إلى موقف معارض.
وإلى الحرب في العراق، التقط خالد محمد، المصور في وكالة أسوشيتيد برس صورة تعد من الصور البارزة لحرب العراق، إذ فتحت جبهة جديدة في حرب الرأي العام علي إدارة بوش، وأظهرت الوجه الأخر للحرب.
كان قد مر ما يقرب من عام على سقوط بغداد، وانتشرت صور هدم المدنيين العراقيين تمثال صدام حسين، وصور الرئيس بوش على حاملة الطائرات مع شعار “المهمة أنجزت” في الخلفية. تستمد الصورة القوة من تناقضها مع الرواية الرسمية للحرب في ذلك الوقت، كان التوجه الرسمي الأمريكي يظهر أن الشعب العراقي يستقبل الجيش الأمريكي كمحررين، لكن مع صورة محمد ظهرت رواية جديدة مناقضة.
الصورة لجثتين أمريكيتين متفحمتين معلقتين على جسر ويحيط بهما حشد من العراقيين المبتهجين.
يتجسد رعب الصورة في أوجه متعددة، فالتكوين يوجه المشاهد إلى الوجه المبتسم لشاب عراقي في المقدمة، رفعت ذراعه في احتفال ما، يقف الشاب في مقدمة الكادر.. تتحرك عين المشاهد بداية من طرف يد الشاب حتى أطراف الأصابع الممدودة… تُميز شكلًا أسود مروّعً في البداية غير قابل للتحديد، مؤطرًا بين ميل المعصم وبين العارضة الخضراء الفاتحة للجسر، وعلى الجانب الأيسر هناك شكل أسود، يبدأ المشاهد في التدقيق ويميز هذا الشكل، إنه شكل إنساني مما يثير الصدمة، جسد معلق رأسًا على عقب، مع وجود أرجل محددة بوضوح جسد متدلي فوق الحشد المبتهج.
يعلم المشاهد من التعليق، أن الجثث هي جثث لأمريكيين نصب الشعب لهما كمينًا وتُركوا للجموع حيث قاموا بتشويههم وجرهم في الشوارع إلى الجسر. ثمة تباين بين احتفال الشعب العراقي والجثث الأمريكية والأطراف المحترقة، إذ تبدأ الصورة من الغموض، الذي يتضح فيتحول رعبًا، إنها بمثابة عرض لمشهد بصري أنتجته الفوضي، مما جعلها أحد أهم صور الحرب.
هددت صورة محمد بأن تكون معادلة لنفس صورة الإعدام في حرب فيتنام لآدمز لأنها ساعدت على تحفيز وسائل الإعلام لإظهار صور الخسائر الأمريكية في الفلوجة وفتحت النقاش حول موت الرجال في مكان ما بعيدًا عن أوطانهم والعواقب السياسية لهذه الوفيات، وأثبتت قوة الصور الفوتوغرافية في تغيير التاريخ، إذ تقدم تاريخ الانتخابات الرئاسية في عام 2004 سبعة أشهر. تلتقط بعض صور الحرب روح العصر، كصورة ألفريد إيزنستيدت للحرب العالمية الثانية لجندي بحرية يقبل إحدى الممرضات في ميدان التايمز، والبعض الآخر يغير وجهة نظرنا، مثل صورة الإعدام في فيتنام.
في عالم يغمرنا بالصور، ولكي نتمكن من فهمها وقراءتها بعد مرور وقت من الحدث، لابد من معرفة السياق التاريخي، وفهم الحاضر الذي تعرض فيه الصورة، وإدراك الرسالة المراد توصيلها خلال عملية نقل عاطفية تتجاوز مجرد “تسجيل” الحدث،إذ تجعلنا الصور نحاكي مشاعرأبطالها من شجاعة وألم ومعاناة وخوف.
يري فريد ريتشن، أن الصور ترصد التحولات وتوثق التاريخ بأثر رجعي ومهما سمعنا وقرأنا عن الحروب وتأثيراتها على الجمهور، لن تؤثر فينا أي كلمات بدون صور تحرك ميولنا البشرية وهويتنا العاطفية لأننا نثق فقط بما نراه،وهو ما يجعل الفوتوغرافيا خالدة.