حملت بدايات القرن التاسع عشر للفنون التشكيلية ازمة حقيقية وضعتها امام طريق مسدود، قد سحبت منها مهام ووظائف عديدة كانت تؤديها في السابق، كالتوثيق والتأريخ، الى جانب قيمها الجمالية المعرفية، كما انيطت بها مهام ووظائف جديدة، لم تكن تعرفها في السابق.
وجذور هذه الازمة تعود الى العام 1839 عندما ظهر التصوير الضوئي «الفوتوغرافي» حيث تفجرت ازمة حقيقية بين المثقفين المشتغلين في حقول الابداع المختلفة، قادها مجموعة من الفنانين التشكليين امثال «آنجر» وغيره ممن وقعوا على عريضة معروفة نددت باختراع الكاميرا وبالتالي بفن التصوير الضوئي.
فقد اكد يومها الفنان «انجر» والشاعر «بودلير» وغيرهما ممن تصدوا للفن الوليد، ان التصوير الضوئي ليس فناً، وطالبوا بألا يقبل في معبد أبوللو لانه فن آلي بارد وليس فيه ابداع، وقد استمرت هذه الازمة حتى يومنا الحالي، حيث مازال هناك من يرفض ضم التصوير الضوئي الى اللغات الابداعية التقليدية، كالرسم والنحت والشعر والموسيقى والادب.. الخ،
في الوقت الذي وصلت فيه الصورة الضوئية الى رحاب المتاحف وصالات عرض الفن التشكيلي بل باتت تشكل ركناً اساسياً في المعارض الدورية الكبيرة للفن التشكيلي نفسه، ودخلت كافة ميادين الحياة واهميتها في ازدياد يوماً بعد يوم.
والحقيقة التي لا يمكن ان ينكرها احد اليوم، هو ان التصوير الضوئي وبهمة رواده المهرة المسكونين بهاجس التجديد والتطوير والكشف، تمكن من فتح آفاق جديدة وهامة في عالمه الذي ظل الى حين اسير محدودية الفن التطبيقي او الحرفة.
على ان المثير والمدهش حقاً، هو انه لا يمر او يكاد يمضي يوم دون اضافة جديدة لفن التصوير الضوئي، سواء على الصعيد المخبر وملحقاته، او على صعيد العدسة، فقد طالت امتدادات فن التصوير الضوئي الكمبيوتر والانترنت واجهزة تصوير الفضاء الخارجي والمحطات وغير ذلك من مجالات العلم والتكنولوجيا.
فقد تمكن التصوير الضوئي القائم في الاساس على العلم والآلة والخبرة التي تديره من التمدد ايضا على قسم كبير من حقول الفنون التشكيلية، خاصة فن التصوير الزيتي والمائي والحفر المطبوع والاعلان، مقدما بذلك خدمات كثيرة لهذه الفنون، وآخذاً في الوقت نفسه منها خدمات مماثلة.
واتكاء الفنون التشكيلية على الصورة الضوئية ليس جديداً بل يعود الى البدايات الاولى لاختراع الكاميرا حيث قام الفنان الفرنسي المعروف «اوجين ديلا كروا» بالنقل عن صور ضوئية في تنفيذ لوحاته، وفي المكتبة الوطنية الفرنسية بباريس، يوجد الآن ما يربو على مئة صورة ضوئية استعملها هذا الفنان في تنفيذ لوحاته الزيتية،
واليوم هناك جيش من الفنانين التشكيليين في سوريا والدول العربية وغيرها من الدول ينفذون غالبية لوحاتهم واعمالهم الفنية التشكيلية الاخرى، اعتمادا على الصورة الضوئية حيث يقومون بتصوير الحي القديم، او المنظر الطبيعي.. وحتى الوجه والطبيعة الصامتة
وغيرها من المواقع التي طالما كانت لصيقة بالفن التشكيلي، يقومون بتصويرها بالكاميرا، ثم يأخذون الصور الى محترفاتهم للنقل عنها بأكثر من وسيلة، بينها عملية الاسقاط بالفانوس السحري، كذلك فن الاعلان والملصقات الذي بات يقوم في معظمه على الصورة الضوئية.
والحقيقة ان انتشار وتشعب استخدامات فن التصوير الضوئي في حياتنا المعاصرة جعلت منه متزايد الاهمية، كما ان المؤشرات التي تحملها اضافات فن التصوير الضوئي المتزايدة، تشير بوضوح الى ان ثمة افاقا رحبة من الابداع والابتكار تنتظر جولات المصورين الضوئيين المهرة، هؤلاء الضاربين غمار الكشف، المسكونين بالمغامرة الباحثين عن الجديد دائما.
من جانب آخر اصبح للتصوير الضوئي مدارس ومعاهد تدرس تقاناته المختلفة خاصة بعد استخدام وتطور معطياته وكشوفاته الجديدة من قبل التلفاز والكمبيوتر والانترنت وكافة وسائل الاتصال كالصحافة والاعلان والاعلام.. الخ، كما اصبحت للفن الضوئي مجلاته التخصصية التي تلاحق آخر تطوراته واضافاته.
لقد تبادل فن التصوير الضوئي مع الفن التشكيلي، الكشوف التقانية والتعبيرية فتطور الاول من خلال الثاني، والعكس صحيح ايضا، غير ان فن التصوير الضوئي ذهب ابعد من ذلك عندما باحت كشوفاته الاخيرة عن طموحات كبيرة باقامة مستعمرة له في حقول التشكيك المعاصر، طالباً بذلك حق «المواطنية» الكاملة في جمهورية الابداع، هذا الحق الذي رفضته بقوة جماعة «ابوللو» ابان ولادته، لكن بعد التطور المذهل الذي حققه اليوم، يبدو ان هذا الحق حصل عليه، او في احسن الاحوال هو في الطريق اليه!!