الرّوائي عبدالرَّحمن منيف طاقة سرديَّة شاهقة
نسجَ حرفَهُ كأنَّهُ في حالةِ أُلْفَةٍ معَ حكايا الأساطير
عبدالرَّحمن منيف
(36)
الرِّوائي الكبير عبدالرَّحمن منيف قامة إبداعيّة مدهشة في تدفُّقاتِ الخيالِ وانسيابيّةِ السَّردِ في خلقِ فضاءاتِ الحوارِ ووهجِ البناءِ الفنّي عبر سرد تجلِّيات فكريّة شاهقة في مضامينها وأهدافها وعرضها بأدقِّ التَّفاصيل، وكأنّ خياله كاميرة بانوراميّة في تسجيل أحداث ووقائع في غاية الرّهافة. كتبَ رواياته وسرديَّاته ومقالاته وقصصه القصيرة من وحي أفكارٍ خلَّاقة، كأنّه ناسِكٌ اعتكفَ بهدوءٍ كبيرٍ في صومعتِهِ المفتوحة على مساحاتٍ شاهقة من دنيا الشَّرق، وسلَّطَ قلمه على جراحِ الأوطان الّتي تنزفُ أنينًا من كلِّ الأطرافِ، منطلِقًا من الواقعِ المخلخلِ الَّذي رآهُ متفشِّيًا في أهمِّ مفاصل كينونةِ المواطنينِ والأوطانِ معًا.
امتلكَ منيف خيالًا خلَّاقًا في انبعاثِ جموحاتِ سردِهِ، وانطلقُ من ثقافةٍ موسوعيّة في المواضيع الّتي كتبها بتقنياتٍ عالية ونثرَها في الفضاءاتِ الّتي ولجَها بسلاسةٍ طريّة؛ فقد كان ينهضُ في الصَّباحِ الباكرِ وهو في أوجِ صفائِهِ الذّهني، ويكتبُ بشغفٍ عميقٍ على مدى ساعاتٍ. رسمَ شخصيَّات رواياته كمَن يطيرُ بين جنائن النّعيم، وهو يحلِّق في متاهاتِ سردِهِ في أوجِ شغفِهِ وتدفُّقاتِهِ: حرفُه منسابٌ كتهاطلاتِ عذوبةِ المطرِ، يحلِّقُ القارئُ معَ تحليقاتِ حرفِهِ، فلا يرى القارئ أشهى من الغوصِ عميقًا في متاهاتِ عوالمِهِ السَّحيقة وفضاءاته الرّهيفة، ينتشلُنا من واقعِنا، ويدخلنا في منعرجاتِ دنياه المفتوحة على الكثير من وقائع الحياة وما يماثل الحياة الّتي عشناها، وكأنّه قنّاص ماهر قدَّمَ شهاداتٍ دامغة على عصره.
لم أقرأ روايةً من رواياته إلًّاأذهلني خياله المجنّح وطاقاته في بنيانِ فضاءِ شخصيّاته وسرده وطاقاته المدهشة في خلقِ الأحداثِ، إلى درجةٍ أنَّني كنتُ أشعرُ وكأنّي أرى الشَّخصيّة وتفاصيل ما يعتريها بعيني. بدا لي مصوِّرًا بارعًا في رسمِ دقائقِ الأحداثِ وتشابك تفاعلاتها؛ حتّى خُيِّلَ إلي أنّه نسجَ لنا أحداثًا من أرض الواقع وعلى ألسنة شخصيّاتٍ من لحمٍ ودم، وإلَّا ما هذه الطَّاقة الانسيابيّة والتّداخلات في بنيان السَّرد والأحداث والحوار والتّفاعلات المنبجسة من أكبرِ الأحداثِ إلى أصغرِها، مستخدمًا لغةً سامقةً منسابةً معَ حوارِ الشَّخصيّات، ومفصَّلة عليها تفصيلًا مبهرًا، وكأنَّه قام بدراساتٍ محكمةٍ لكلِّ حركةٍ أو نأمةٍ من شخصيّاتِ قصصه وأحداثها وفضائها، ماسكًا خيوط الأحداث برشاقةٍ مدهشةٍ في كلِّ تفرُّعاتها مهما كانت متشعّبة، ويدخلنا في لبِّ الأحداثِ إلى أن يجعلنا غير قادرين من الفكاكِ ممّا سيحصل من أحداثٍ قادمة فنقرأ ونقرأ ونقرأ ولا نملُّ من انسيابيّة وهجِ السَّردِ وألقِ التَّشويقِ، كأنّهُ منذُ أن تبرعمَ في أحشاءِ أمِّهِ، تشكَّل أن يكونَ روائيًّا بارعًا متناغمًا مع كلِّ ما يتطلّبُهُ بناء العمل الرّوائي من أدواتٍ فنّيّة رصينة ومبهرة، ولغةٍ شاهقة وخيالٍ خلَّاق وثقافة موسوعيّة شغوفة في تجسيد طموحاته الرَّحبة فوق بياضِ الورقِ.
أصدر منيف أولى رواياته عام (1973م)؛ بعنوان: “الأشجار واغتيال مرزوق”، ركَّزَ على الغوصِ عميقًا في شخصيّة المواطن الشَّرقي، وعبَّرَ أعمقَ تعبير عن تأزُّماته في رحلةِ العمرِ المثخّنة بالجراحِ ورحلةِ العبورِ نحوَ ما وراءِ البحارِ، كما رسمَ الوطن المعشَّش بالدّهاليزِ والسَّراديبِ الّتي أودَتْ بهِ إلى حالةٍ من التَّوهانِ، فتاهَ الوطنُ والمواطنُ في عالمٍ موحشٍ مليء بالهزائمِ والانكسارات. نسجَ منيف أحداث الرِّواية بمهاراتٍ عالية، تخلَّلَها أحداثٌ غنيّة بالحبِّ والحنينِ إلى ربوع الأوطان، كما جسّدَ فيها الكثير من مشاعر الغضب، وتأزُّمات الذّات. ثمَّ كتبَ رواية: “قصّة حبّ مجوسيّة”، وتبدو لي هذه الرِّواية أنّها لا تناسب أن ندرجها في فضاءِ الرِّواية بقدر ما تناسبُ أن ندرجها في فضاءِ القصّة الطّويلة، أو يمكن أن نصنِّفها مع الرِّواية القصيرة، ولم يتوقّف الكاتب في هذه الرّاوية عندَ قضايا وهموم المواطن في العالم العربي، حتّى أنَّ الزَّمان والمكان كانا في فرنسا، والشِّخصيّة الّتي تحدّث عنها في الرِّواية هي شخصيّة شاب فرنسي، مركّزًا على علاقة البطل الاجتماعيّة وغيرها من العلاقات، مستخدمًا لغة شاعريّة مكثّفة عبر تأمُّلات رهيفة في بنائها الفنِّي، فتداخلَ الفضاء السَّردي مع الوهج الشِّعري؛ فولدَتْ رواية جميلة في تدفّقات تأمُّلاتها ولغتها الرّشيقة ومختلفة جذريًّا عن تجارب منيف الرِّوائيّة كلّها! ثمَّ كتبَ روايته الشَّهيرة: “شرق المتوسّط” الّتي وضعته في مصافِّ الرِّوائيين الكبار؛ وتدور أحداث سرديّاتها المدهشة حول السّجناء والمعتقلين السِّياسيِّين، وقد حلَّقَ الرِّوائي في رسم عذابات السُّجناء في سجون وزنازين الشَّرق المرير. أدهشني منيف في تألُّقه في بناء هذه العوالم والفضاءات خلف الأسوار العالية والأبواب المغلقة في الزَّنازين المعتمة! ينتاب القارئ رعب حقيقي وهو يقرأ مشاهد وصف الرِّوائي لعذابات المساجين السِّياسيِّين، يجد القارئ نفسه أمام عالمٍ خرافي في فنون التّعذيب؛ لا يمكن أن يتخيّله المرء، وما سرَدَهُ منيف في فضاءات “شرق المتوسّط” قريب جدًّامنحالات السّجون في العالم العربي، وهكذا تزدادُ السُّجون والزَّنازين ظلمًا وأنينًا على حساب تقهقر البلاد، ويزدادُ المواطنُ فقرًا وقهرًا وشقاءً، وكأنَّ برامج بلادنا في دنيا الشَّرق قائمة على تعذيب مواطنيها وضدّ ذاتها؛ لأنّها تحاربُ ذاتَها بذاتِها، وقد حصلَ الكثير ممَّا جاء في روايته في الكثير من الزّنازين العربيّة، علمًا أنّه كتبَ روايته منذ عقودٍ من الزّمان، وقد وجدناه في روايته محلِّقًا في فضاءاتٍ سرديّة في غاية الدِّقة والحساسيّة، ثمّ تلاها بعد أن كتبَ عدّة روايات أخرى، عاد وكتب رواية ثانية بنفس الإيقاع المتسارع في أقبية الزّنازين؛ بعنوان: “الآن هنا: أو شرق المتوسّط مرةً أخرى”! أدهشني سرْدُهُ لما كان يحصل خلف الأبواب المغلقة من أنينٍ موجع! فرسمَ عالم السُّجون وعذابات السُّجناء وكأنّه شاهد عيان لما حصلَ في أعماقِ الزّنازين. شعرْتُ وأنا أقرأ سرْدَهُ المرهف في شموخِ تجلّياته، وكأنّي أقبع في زنازين السّجون، وأتفاعل مع أحداث الرّواية مشهدًا مشهدًا، كنتُ أحيانًاأتلمَّس نفسي بعفويّة؛ للتأكّد أنّني لستُ شخصيّته الرِّوائيّة الّتي رسمها. يتفاعل القارئ معَ دهاليزِ السّجونِ ويشعرُ وكأنّه يسمعُ أنينَ السُّجناءِ وآهاتهم؛ فقد استطاعَ الرِّوائي أن ينقلَ للقارئ معاناة السُّجناء إلى درجة أنّ القارئ يشعرُ وكأنّهُ يتحدّثُ عنه وعن كلِّ مَن يشبهُهُ، أو كأنّه هو نفسه -أي الرّاوي- دخل معترك هذه السُّجون ويتحدَّثُ عن تجربتِهِ بدقّةٍ عالية وبتفاصيل لا تخطر إلّا على بال السُّجناء الّذين رسمهم بمهاراتٍ فنّيّة عالية، علمًّا أنّه استوحى سرديّاته من خلالِ بحوثه وقراءاته عن عوالم السُّجون، منطلقًا من خيالٍ جامحٍ وطاقات سرديّة مدهشة في بناءِ عالمٍ روائي أشبه ما يكون مستمَدًّا من وقائع حياة السُّجون؛ كي يقدِّمَ هذه الحالات للقارئ على طبقٍ من إبداع لا يجاريهِ كبار الرِّوائيِّين في العالمِ فيما يخصُّ عوالم السّجون بجرأةٍ غير معهودة.
عاشَ الرِّوائي السّعودي عبدالرّحمن منيف في الأردن والعراق وسوريا ومنافي بعيدة أكثر ممَّا عاشَ في وطنه الأم السُّعوديّة، والطّريف بالأمر، أنّ السُّعوديّة أصدرت قرارًا بإسقاط الجنسيّة السُّعوديّة عنه، وكأنَّ الجنسيَّة والمواطنة هي “شقفة ورقة” يتمُّ تمزيقها من سجلّات النُّفوس أو قرار من هذه الدَّولة أو تلك بإسقاط الجنسيّة! وإنَّ إسقاط الجنسيّة عن شخص ما، عادةً يتمُّ لمَن اكتسبَ جنسيّة دولة ما، ولسببٍ آو لآخر تُسقط عنه الجنسيّة الّتي أكتسبها، وإلّا فأنّه لا يوجد أيّة دولة في العالم تستطيع إسقاط جنسيّة مواطنيها مهما تكُن الأسباب. ونظرًا لأنّه لم يتمكَّن من التّعبير عمّا كان يراوده عبر رواياته وكتاباته في المملكة السّعوديّة؛ فلم يعِشْ فيها؛ أقامَ في عمان وبغداد ودمشق وفي عواصم عربيّة وغربيّة أخرى. وتشرَّبَ ثقافة رصينة وعميقة، خوَّلته أن يمتلكَ خبرةً عميقةً في الفنِّ الرِّوائي، جعلته يمسكُقلمه بحرفيّة عالية ويجسِّد رؤاه، مركّزًا خلال سرديّاته على الفكر الإنساني الخلّاق؛ لهذا، أراه من أبرعِ الرِّوائيِّين العرب. ينسجُ تجلِّيات حرفه مثلَ سيلٍ جارفٍ فوقَ نصاعةِ الورقِ، غير آبهٍ لأيّة رقابة إلّا رقابة ضميره الحي وفكره المستنير، ولديه تحليقات شاهقة في جموحاتِ الخيال، قلّما نجدها عند بقيّة الرّوائيِّين، كأنّه في حالةِ أُلْفةٍ معَ واحاتِ الأساطيرِ وأسرارِ حكايا الشَّخصياتِ الّتي يرسمُها برهافةٍ عالية، يكتبُ سرديّاته كمَنْ يسبحُ في أعماقِ البحارِ الدَّافئة، كمَنْ يحلِّقُ فوقَ أحلامِ الذّاكرة ويفرشُ حرفه فوقَ سهولِ القمحِ الممتدَّة على مدى شهقاتِ الحنين، لا يبالي بأوجاعِ السّنين، محاولًا أن يقرأ جراحَ الغدِ الآتي، واضعًا في الاعتبار أن يبلسمَ آهاتِ الأوطان وجراح الإنسان في دنيا الشَّرق، ويفتحَ كوَّةَ أملٍ لتنويرِ الأجيالِ وتطويرِ البلادِ نحوَ الأفضل.
غاصَ منيف في رواية “النّهايات” في فضاءاتِ الأرضِ، مركّزًاعلى علاقةِ الإنسان معَ الطّبيعة(أُمِّ الحياة)، وخلقَ في عوالم بطل الرّواية قصصًا متقاطعة مع حكايا الأساطير ومتجانسة مع الطَّبيعة، ونجح في إسقاط أفكاره ورؤاه في فضاءات عمله الرّوائي، مركّزًا على ضرورة الحفاظ على بهاء الطَّبيعة والكائنات الجميلة كالطُّيور وكل ما يمنح الطَّبيعة جمالًا وروعةً، تدفَّقَ عبر سرده بلغةٍ رشيقة مثلَ تدفُّقات الأنهار المنسابة في منعرجات الوديان، ثمَّ يصدمنا في نهاية الرِّواية بموت البطل، ويطرح الرِّوائي عبر روايته فكرة الرّفق بالحيوان والتّوازن مع بهاء الطّبيعة والحفاظ على جمالها وعطاءاتها الخيّرة.
يكتب منيف رواياته بعدّة أساليب، وبلغة رصينة عميقة محبوكة بالرّموز والحكم الفلسفيّة والأفكار الهادفة؛ ففي رواية “حين تركنا الجسر” نجد كيف اعتمد منيف على كتابة نصٍّ روائي تخلَّله مونولوج داخلي رهيف المعاني والأنغام في سرده وطريقة عرضه للقارئ، ويقدّم عبر مونولوجه الكثير من الأفكار الّتي تصل إلى أعماقِ القارئ، مبيّنًا خيبة البطل؛ وهي إسقاطات وترميزات لخيبات الإنسان الّتي تصادفه في الحياة، نصّ محبوك بمشاعر غامرة وأحاسيسِ العشقِ، كما نجد في فضاءات النّص مشاعر اليأس والقنوط والفشل في بعض الأحيان، وكذلك يتخلَّله فضاء الفرح والنّشوة وأحاسيس متشعّبة بالكثير من الحالات الّتي نعيشها في حياتنا؛ فهو يعكس حياة القرّاء في سياق سرديّاته، مجسّدًا حكمة ورؤية فلسفيّة وصراعات الإنسان مع الوجود ومع مَن يحيط به، وصراعه مع نفسه في بعض الأحيان، وكل هذا جسَّده في سردٍ روائيٍّ بديع.
وفي رواية “عالم بلا خرائط” المشتركة بينه وبين جبرا إبراهيم جبرا، نجد أنفسنا أمام تجربة فريدة من نوعها، لم نجد مثيلًا لها في الشَّرق والعالم العربي، ويَحارُ القارئ متسائلًا: ما هي الفصول الّتي كتبها جبرا والّتي كتبها منيف في هذا النَّص الرّوائي؟! إذ ليس من السُّهولة أن يميِّزَ القارئ ما كتبه جبرا وما كتبه منيف؛ فقد كان هناك تناغمٌ وسلاسة في سير الأحداث لدرجة أنَّ القارئ يشكُّ أن كاتبَين كتبا الرِّواية، وكلُّ هذا حصل نتيجة التَّناغم الفكري والخيال الخلَّاق لكلٍّ منهما؛ ولما بينهما من انسجام بديع في رؤيتيهما، مع أنّ لكلٍّ منهما خصوصيَّته وفكره المستقل وأسلوبه في العمل الرِّوائي والأدبي، وقد أنجزا في هذا العمل بالذّات رواية مشتركة متميّزة وراقية في كلِّ ما جاء فيها من سردٍ روائي وتناغُمٍ فنّي، وقد كان هدف منيف أن يجرِّبَ كتابة عمل روائي مشترك لتطوير وتجريب الإبداع، وتقديم تجربة غير مسبوقة وجديدة ليضيف للمكتبة العربيّة تجربة غير مطروقة، ويفتح آفاقًا جديدة في السّرد الرِّوائي، ونجح منيف وجبرا في هذه التّجربة إلى حدٍّ كبير. ومنيف كاتب معروف بغزارة إِنتاجه الأدبي؛ فقد كتبَ عدّة روايات أخرى: “أرض السَّواد” من ثلاثة أجزاء، و”أم النّذور”، وكتب مجموعتَين قصصيَّتَين: “أسماء مستعارة” و”الباب المفتوح”، كما كتب العديد من الكتب الفكريّة والأدبيّة وقراءات في التّشكيل واللَّون والإبداع، ولديه كتاب حمل عنوان: “سيرة مدينة” عن عمان العاصمة الأردنيّة، وفي كلّ كتابات منيف السَّردية ومقالاته الفكريّة والأدبيّة وقراءاته في التّشكيل واللّون، نجده يعكس رؤية واسعة وعميقة ومستنيرة لقراءة الحاضر وبناء فكر خلّاق يستشرفُ فيه تطلُّعات آفاق المستقبل.
وأكثر أعمال منيف شهرةً على الصَّعيد العربي والعالمي هي “مدن الملح”؛ رواية خماسيّة تتألَّف من خمسة أجزاء، وقد تُرجمَتْ إلى العديد من لغات العالم، وأطلق عليها منيف “مدن الملح”؛ منطلِقًا من التَّغيرات الّتي حصلت في القرى والمدن بعد أن تمَّ اكتشاف النّفط السُّعودي، وأطلق على اسم الدَّولة في عمله الرّوائي “موران”، وحملت الأجزاء الخمسة العناوين التَّالية: “التِّيه”، “الأخدود”، “تقاسيم اللّيل والنّهار”، “المنبت”، و”بادية الظّلمات”، يصف الرِّوائي في الجزء الأوّل: “التِّيه” بداية اكتشاف النّفط في بعض مدن وقرى الجزيرة العربيّة، وكيف تشكَّلت المدن وتطوَّرت واعتبرها تغيُّرات عاصفة وعنيفة وقاسية، ومن أهم أبطال هذا الجزء “متعب الهذَّال”؛ وهي شخصيّة قويّة ترفض المتغيّرات الَّتي حصلت، ويرمز إلى أصحاب الأرض وقدّ أدّى رفضه إلى استخدام العنف معه من قبل السّلطات الحاكمة في البلاد، رواية مشحونة بسرد طافح بالإبداع والخيال الباذخ في انبعاثاته وبنائه بلغة شيّقة ورشيقة. وفي الجزء الثَّاني “الأخدود” يلجأ الرِّوائي إلى وصف التّحوُّلات الكبيرة الّتي حصلت في الصَّحراء وحوّلتها إلى حقول نفط، ومن أهم شخصيّات هذا الجزء السّلطان “خربيط” وابنه “خزعل”، الّذي استلمَ سدّة الحكم، وسرعان ما مهّد للشركات الأميريكية تسهيل مخطّطاتهم للتنقيب عن النّفط، وركّزَ الكاتب في هذا الجزء على التَّغيُّرات والتَّحوُّلات الّتي تمّت بشكلٍ متسارع، وقفل نهاية الكتاب بالانقلاب الّذي قام به “فنر” ضدَّ أخيه “خزعل”. وفي الجزء الثّالث “تقاسيم اللَّيل والنّهار” تزدادُ حدَّة الصَّراعات القبليّة، ويتدخَّل الغرب من خلال تحالف الحاكم “خربيط” معهم؛ كي يتمكّن من الهيمنة على مكامن النَّفط، للحصول على أكبر قدر ممكن من الثّروة. وفي الجزء الرّابع: “المنبت” يسلّط الكاتب قلمه على “خزعل” وصراعاته مع أخيه “فنر” ووفاته في المنفى. وكيف تمَّ انقلاب “فنر” على أخيه، وما آلت إليه التّغيُّرات السّلبيّة على المنطقة، وحاول قصارى جهده إعداد أجهزة موالية له في الصّحراء؛ كي تساعده وتسانده للتخلُّص من توجّهات أخيه وأبيه؛ كي ينهي نفوذ التّدخُّل الأميريكي في المنطقة. وفي الجزء الخامس: “بادية الظّلمات” يروي الكاتب كيف سادت حالة من الاستقرار الَّتي وصل إليها “فنر” مركّزًا على التَّغيُّرات الّتي طرأت على حياة النّاس مقارنةً بما كانت قبل استلامه حكم البلاد، ويطلق على اسم الدّولة بعد التَّغيُّرات الّتي حصلت “الدَّولة الهديبيّة”، ويحقِّقُ “فنر” نجاحًا في إدارة البلاد وكأنّه شخصيّة أُسطوريّة؛ ممّا دفع خصومه التّفكير بتصفيته واغتياله، وبانتهاء حياته ينتهي الجزء الخامس والأخير من مدنِ الملح.
حاز الرِّوائي الكبير عبدالرَّحمن منيف على عدّة جوائز منها جائزة سلطان العويس، وجائزة القاهرة للإبداع الرِّوائي وغيرها من الجوائز. وكان يستحقُّ أرفع الجوائز في العالم؛ لما قدّمه من عطاءات رصينة وشاهقة في السَّرد والفكر والأدب المعاصر. توفي الكاتب بعد رحلةٍ طويلة في الكتابة الإبداعيّة في دمشق عام (2004م) في الرّابع والعشرين من شهر كانون الثّاني، وتركَ للمكتبة العربيّة والعالميّة إرثًا أدبيًّا وفكريًّا خلَّاقًا، سيبقى ساطعًا معَ إبداعِ الخالدين إلى أجلٍ طويل!
صبري يوسف Sabri Yousef
ستوكهولم: تشرين الأوَّل (اكتوبر) (2019).