حرفُكَ يا أنسي الحاج يناغي شهوةَ المطرِ
حرفُكَ هديَّةُ عشقٍ تهاطلَتْ علينا من مآقي تجلِّياتِ السَّماءِ!
أنسي الحاج
(31)
أُنسي الحاج شاعر موغل في ألقِ الشّعرِ، تشرَّبَ بالشّعرِ منذُ أن تبرعمَ على وجهِ الدُّنيا، كائنٌ مضمّخٌ حتّى الانبهارِ في تلألؤاتِ انبعاثِ بوحِ القصائد، ترعرعَ معهُ الشِّعرُ والحرفُ منذُ أن خطا خطواتِهِ الأولى في الحياةِ، منذُ أن سمعَ فيروز وأرقى الأغاني وهو مُحاط بين أحضانِ الفرحِ، تنامَتِ الموسيقى والكلمة والشِّعرُ في عالمِهِ المنساب بوهجِ القصائد، فجمحَ بشغفٍ كبير نحوَ عوالمِ الشِّعرِ، كتبَ حرفَهُ على إيقاعِ سموِّ السّماءِ وهدهداتِ هبوبِ النِّسيمِ، اِنسابَ من حبرِهِ منائرُ النُّبلِ والأحلامِ الشَّاهقة فوقَ نصاعَةِ الورقِ، فتناثرَ الحبرُ حرفًا ساطعًا فوقَ خدودِ الحياةِ، أعطى للشعرِ فضاءً رحبًا مفتوحًا على أجنحةِ التَّأمُّلِ والحبِّ وضياءِ الصّباحِ، كأنّهُ يرسمُ بسمةَ اللّيلِ والنّهارِ فوقَ أجنحةِ اليمامِ. هدهدَ جموحات بوح القصيدة كمَن يناغي روحَهُ المعرَّشة في مآقي الإبداع، اعتكفَ مثلَ النُّسَّاكِ، مستلهمًا شعره من خصوبةِ الحبِّ والعشقِ، ومن خدودِ الحياةِ المتوَّجة بشموخِ المرأة، كأنّها ينبوعٌ منسابٌ من روافدِ المياهِ العذبة، تروي قصيدته براري الخيالِ، فاتحًا صدرهُ وقلبهُ وروحهُ بشغفٍ عميقٍ لانبلاجِ وهجِ الحرفِ ومذاقِ الكلمة المبلسمة بنكهةِ البساتينِ والعشبِ البرِّي، معتبرًا اللُّغة كنزه الثَّمين الَّذي تهاطلَ عليهِ خلال تشرُّبات خياله وذاكرته لعذوبةِ الحرفِ وهو يجني حصادَ السِّنين عبر محطّاتِ العمرِ، فلم يَرَ أجدى من بناءِ جموحِ رؤاه الأسطوريّة فوقَ قبابِ اللُّغةِ الشّامخة مثلَ تيجانِ ملكةِ الملكاتِ، رسمَ حلمَهُ الشّاهقَ فوقَ هلالاتِ الغيومِ النَّديّة، وناجى آفاقَهُ المنسابة من مروجِ خيالِهِ المندلقِ مثلَ زخّاتِ المطَرِ الصّافي فوقَ ربوعِ الدُّنيا.
يُشبهُ شعرُهُ رغبةً شهيَّةً مفتوحةً على مساحاتِ حنينِ البحارِ إلى المدائنِ العريقة، رهيفٌ مثلُ ابتساماتِ الأطفالِ وهم في أوجِ بهجتِهم وكركراتِهم وحنينِهم إلى صدورِ أمّهاتِهم. تأمَّلَ طويلًا في مساراتِ انبعاثِ القصيدة إلى أن غدَتِ القصيدة صديقة حلمه وروحه وحياته وشغفه الأزهى في الحياةِ، لا يفارقُها ليل نهار وكأنّها ابنته البكر، يحلِّقُ مرتحلًا معها في فضاءاتِ السّماءِ وأغوارِ البحارِ، فأصبحتِ القصيدة شغله الشَّاغل في بناءِ كينونَتِها بكلِّ حبورِها وتجلِّياتِها؛ كي يفرشَها فوقَ قبّةِ العمرِ، ناسجًا أحلامه المبرعمة من خصوبةِ الطُّفولةِ والحبِّ والعشقِ وتغاريدِ بهجةِ الرُّوحِ. مدَّ يدَيهِ للقمرِ مثلما مدَّ الأطفالُ أيديهم للقمرِ؛ كي يعانقوه بكلِّ شغفٍ وانتعاشٍ، ترعرعَ في قلبِهِ طفلٌ حالمٌ، متوفِّزُ المشاعرِ والآمالِ، عميقُ الرُّؤيةِ والخيالِ، صديقُ الكلمة الصّادحة في مهجةِ الفؤادِ، زرعَ حرفه فوقَ أرضٍ خصبة معبّقة بأريجِ العشقِ، كأنّه هديّة من الأعالي لأرضٍ عطشى للقصيدةِ، للفرحِ، للحبِّ، لأزاهيرِ الحلمِ المحبوكِ من بسمةِ الأطفالِ وشغفِ العشّاقِ وهم في أوجِ عناقاتهم لنعيمِ الأرضِ، وحنينِ السَّماء!
نهلَ أُنسي الحاجِ من كتبٍ مبلَّلةٍ بأرقى القصائد، وتشرَّبَ من وهجِ حرفٍ شرقيٍّ وغربيٍّ أزهى المعاني، كتبَ شعرًا محلِّقًا في الأعالي، مُلوَّنًا وصادِحًا بأهازيجِ الدُّنيا الممراحة فوقَ طينِ الحياةِ، شعرًا شفيفًا من نضارةِ النَّدى، وأطلقَ على ابنته ندى وكأنّها منبعثة من شهقاتِ روحه الظَّمأى لأبهى شموخِ الشّعرِ، وبحثَ عن حرفِهِ بين اخضرارِ الحنطة وأريجِ السَّوسنِ المزدهي حولَ أحواشِ البيوتِ العتيقة، كمَن يبحثُ عن ذهبٍ مصفّى ويشكِّلُ من بوحِهِ قِلادةَ فرحٍ ويعلِّقها في أعناقِ العذارى. صاغَ جموحات شعرِهِ من تأمُّلاتٍ مفتوحةٍ على مساحاتِ المدى المنساب معَ حبورِ البحارِ، عابرًا أقصى تجلِّياتِ انبعاثِ الشِّعرِ، غيرَ آبهٍ بخطورةِ العبورِ إلى أقصى اهتياجِ الأمواجِ، ونقشَ حرفَهُ بكلِّ انتعاشٍ فوقَ وجنةِ الحبِّ وعذوبةِ الموجِ، وهو في أوجِ ابتهالاتِهِ لمعانقةِ خدودِ الشَّمسِ وهي تشرقُ فوقَ عشّاقِ العالم. شعرهُ محبوكٌ من عبيرِ الأحلامِ المزدانةِ بأعشابِ الغاباتِ المستنبتة من خدودِ الرَّبيعِ ونقاوةِ نسيمِ اللَّيلِ المنسابِ فوقَ جباهِ الأطفالِ النَّديّة. مرارًا رقصَ منتشيًا من بهجةِ إشراقةِ الحرفِ على إيقاعِ دفءِ العناقِ، كأنّه في حالةِ غرامٍ معَ كينونةِ الكونِ. شاعرٌ مجنَّحٌ على مساحاتِ حنينِ الأرضِ لتجلِّياتِ السَّماءِ، معجونٌ بحبقِ اليراعِ المتناثرِ من شراعِ القصيدةِ الصّادحة أملًا فوقَ أسرارِ البحارِ، مجذَّرٌ بنقاوةِ أغصانِ الحنينِ المتهاطلِ من أشهى مذاقِ جموحاتِ العناقِ. كتبَ شعرًا شهيًّا معبَّقًا بنكهةِ العسلِ البرِّي، محتبكًا بأسرارِ الرّوحِ التّائهة في مرامي براري الصَّحارى بكلِّ فضاءاتِ سحرها ورموزها وتلالها وجبالها الملتحفة بألغازِ قرونٍ من الزّمان!
تمتازُ فضاءات أُنسي الحاج ببهاءِ الاخضرارِ وخصوبةِ الحرفِ المندَّى بأزهى أريجِ الأزهارِ، شاعرٌ معتَّقٌ بلغةِ التَّجديدِ في بناءِ آفاقِ الغدِ الآتي، متلملمٌ على ذاتِهِ البهيّة، فسيحُ الرُّؤية في مناغاةِ اللُّغة ومساراتِ الخيالِ، صديقُ الصّمتِ والحرفِ والهدوءِ، حاضرُ الفكاهةِ والنّكتةِ والحوارِ ولا تفارقُهُ أصفى القهقهاتِ، هو وشعرُهُ صنوان لا يفترقان، عنيدٌ حدَّ الانبهارِ للوصولِ إلى مراميهِ الشَّاهقة في مناراتِ الحداثةِ؛ شعرًا، وحياةً، وفكرًا، يتناغمُ معَ عالمِهِ الشِّعري والرّوحي والفكري عبر حبر القصيدة، ترجمَ نفسه عبر تجلّياتِ البوحِ دون أن يخشى ردودَ الكونِ، تمتّعَ بجرأةٍ نادرة في مواجهةِ الذّاتِ، غير تابع لأيّةِ جهة فنّية أدبيّة فكريّة، إلّا لفكره وفضائه الخاص به. كتبَ شعرًا مكثّفًا بصورِهِ ومعانيهِ كحبقِ الرّيحانِ ورائحةِ الزَّنبقِ، ونسجَ مسارات حرفِهِ على تماهياتِ بياضِ الغمامِ، كأنّهُ في حالةِ انبعاثٍ في فضاءاتِ حلمٍ سريالي باذخ في تجلِّياتِهِ، مجنّحًا نحوَ أشهى ما في منائرِ التَّجديدِ وبهاءِ اللّغةِ، نابشًا من كنوزِ الحياةِ أبهى ولادات القصائد.
يجمحُ خياله عميقًا في أسرارِ الطَّبيعةِ، ملتقطًا من رحابِ الطُّفولة حبورَ الانبعاثِ، عابرًا في غاباتِ الرُّوحِ المجنّحة نحوَ أعماقِ القارَّات؛ كي يصيغَ قصائده من رحيقِ الأزهارِ المسربلة بحنينِ الأمّهاتِ وهنَّ يبتسمْنَ لآخرِ شهقةٍ في الحياة قبلَ أن يرحلوا إلى زرقةِ السّماءِ، في قلبِهِ تضيءُ بسمةُ الأمِّ، وفي خيالِهِ يموجُ حلمٌ مزنَّرٌ بأرخبيلاتٍ مفتوحة على ضياءِ الأساطيرِ، ناثرًا حرفه المنبعثَ من دماءِ الحنينِ والماءِ الزُّلالِ وصفاءِ الرّوحِ والخيالِ، ليفرشهُ فوقَ خميلةِ الحياةِ هديةً لكلِّ العابرين والعابرات لمعانقةِ حرفٍ من وهجِ الانبهارِ!
اصطفى شوائبَ الحياةِ عبر لغةٍ شاهقةٍ مسبوكةٍ بمذاقِ روحِ الشّعرِ المتلألئة في أهازيجِ العشقِ وهو يفتحُ صدرهُ لزرقةِ السّماءِ؛ كي يصالحَ رعونةَ الأرضِ ويمهّد نتوءاتها معَ سموِّ السّماءِ، مركّزًا على حبورِ الإيمانِ، وصفاءِ الرّوحِ وهي تتطهَّرُ من غبارِ الحياةِ. لملمَ أوجاعَه بهدوءٍ متماهٍ مع طفوحِ القصيدة، وصاغَ تأمُّلاتهُ وحنينهُ وآفاقهُ الرّهيفة فوقَ تماوجاتِ أحلامهِ المنسابة على مساحاتِ اللَّيل، شوقًا إلى أقصى شهقاتِ بوحهِ ليكتبَ حرفًا من مذاقِ الشَّمسِ، حاملًا فوقَ أجنحتِهِ لهيبَ نيران الشّعرِ المقدّس، كان يرى في لهيبِ الشِّعرِ قداسةً متَّقدةً بتجلِّياتٍ في أوجِ إشراقاتها من شهقةِ السّماءِ المتهاطلة فوقَ ضياءِ الحياة.
كتبَ شعره من لجينِ الأحزانِ المعشَّشة في بؤرةِ دنياه، حافرًا معبرًا شاهقًا في بناءِ قصيدةِ القصائد، إلى أن أصبحتِ القصيدة خبزه الشَّهيَّ، متعانقًا مع فضاءاتِ الإبداع الخلّاق بتوهُّجاتٍ عشقيّة نادرة في جموحاتِ الحرفِ. كتبَ شعرهُ كمَنْ يستلهمُ حرفَهُ من غاباتِ النَّعيمِ وحنينِ الحياةِ إلى تلألؤاتِ النّجومِ في أوجِ سطوعِها، لم يُغْرِهِ أي تكريمٍ على وجهِ الدُّنيا، إلَّا بسمة القصائد وهي تناغي روحه الموغلة في هدهداتِ بهاءِ الحرفِ. عشقَ الحرّيّة إلى حدِّ الابتهالِ وهو يدلقُ حرفَهُ بكلِّ شموخٍ في مروجِها الفيّاضة؛ كي يرسمَ أحلامَهُ المتلاطمة مثلَ جموحاتِ البحارِ؛ كي يجسِّدَ رذاذاتِ تبرِه فوقَ أغصانِ الحياةِ، وينثرَها قصيدةً معجونةً من شهيقِ الرُّوحِ فوقَ مروجِ الدُّنيا.
أنسي الحاج؛ شاعرُ الكلمة الحرّة المجنّحة نحو آفاقِ أشهى خصوباتِ الحياة، كتبَ شعرًا من لونِ نسيمِ الصَّباحِ المعبّقِ بقهقهاتِ الطُّفولةِ وصفاءِ البحارِ، وهفهفاتِ زرقةِ السَّماء. لم يُحِدْهُ عن عناقِ القصيدةِ كل إغراءات الكونِ، ظلَّ صديقًا وفيًّا للحرفِ، للعشقِ، للجمالِ، للبهاءِ، لوجنةِ قصيدةٍ مبرعمةٍ من هلالاتِ الحبِّ والوفاءِ والصَّفاءِ. شاعرٌ من مذاقِ تهاطلاتِ الغيومِ، كأنّه رسالةُ فرحٍ منبعثة من مآقي السّماء. صديقُ الطّبيعةِ، صديق الشِّعر والشُّعراء والشَّاعرات، صديقُ الصَّباحِ والمطرِ وتغاريدِ الطُّيورِ، صديقُ فيروز والغناءِ الأصيلِ، صديقُ أدونيس والماغوط والأب يوسف سعيد، صديقُ الأزاهير البرِّيّة والأهليّة، صديقُ الكون وهو في أوجِ السَّخاءِ، صديقُ الكلمة الممراحة المتناثرة فرحًا فوقَ جموحِ الغاباتِ، صديقُ اللُّغاتِ والحرفِ وشعراء الكونِ. ترجمَ شعرًا من لغاتِ النُّور بأرقى تجلّياتِ الحرفِ، شاعرُ التّناقضاتِ الرّصينة، رقيقُ القلبِ، رهيفُ الرّوحِ وجامحُ الخيالِ إلى حدِّ الإبهارِ، عاشقٌ من شهوةِ الغسقِ. كتبَ خواتيمه بحبرِ الحنينِ، ونقشَ “كلمات كلمات كلمات” بماءِ الحبِّ وخيالٍ مجنَّحٍ نحوَ صفاءِ الغيومِ، استلهمَ حرفه من اخضرارِ السَّنابلِ وبراءةِ الأطفالِ، شاعرٌ من حبرِ المحبّة والحياةِ ونسيمِ الصّباحِ!
أيُّها الشّاعر المجنّح نحوَ تلألؤاتِ نُجيماتِ الصَّباحِ، حرفُكَ -يا أنسي الحاج- يناغي شهوةَ المطرِ، ويسقي حنينَ الأرضِ لحبورِ السَّماءِ، شِعرُكِ هديّةُ عشقٍ تهاطلَتْ علينا من مآقي تجلِّياتِ السّماءِ!
ستوكهولم: تشرين الأوَّل (اكتوبر) (2019).
صبري يوسف