أيُّها المطر الهتون، أيَّتُها الغيوم المباركة
بلِّلَا روحَ طاغور بأنقى ما في سموِّ السِّماءِ!
طاغور
(20)
لم أجدْ نفسي حزينًا مثلما أراني اليوم، لكنِّي معَ هذا أجدُني مجنّحًا نحوَ أقاصي مروجِ الإبداعِ، وحدَها الكلمة أنقذتني من جنونِ هذا الزّمانِ، من طيشِ هذا الزّمانِ، من غباءِ هذا الزَّمانِ، من تخريفاتِ هذا الزّمانِ، من ضجر هذا الزَّمان، من حروبِ هذا الزّمانِ، من خياناتِ هذا الزّمانِ، من غرائبِ هذا الزَّمانِ، من شراهاتِ هذا الزّمانِ، من قباحاتِ هذا الزّمانِ. وحدَهُ قلمي يستعيدُني إلى حبِّي لذاتي الجريحة، وحدَهُ قلمي يهدهدُ قلبي الطَّافحِ بالأسى، وحدَهُ قلمي يربتُ فوقَ دموعي وهي تنسابُ سخيةً فوقَ خدِّي، وحدَهُ قلمي يجابهُ جبابرةَ الكونِ فأراهم أقزامًا عندَ انبلاجِ حرفي، وحدَهُ قلمي لا يخشى شراهاتِ الحروبِ، ولا يأبه أبدًا بجنون الصَّولجان ولا بمجابهاتِ الكونِ، وحدَهُ حرفي يتحدّى جنونَ الحروبِ، وحدَهُ حرفي يجنحُ نحوَ هلالاتِ السَّلامِ والمحبّةِ والفرحِ رغمَ أنفِ الأحزانِ الّتي تطوِّقني من كلِّ الجوانبِ. لم أجدْ نفسي حزينًا مثلما أجدها اليومَ، لكنِّي معَ هذا أشقُّ طريقي نحوَ ضياءِ القمرِ، نحوَ بخورِ الكنائسِ القديمة، نحوَ شهقةِ الشَّمسِ، نحوَ بسمةِ طفلٍ يهدهدُ روحي، نحوَ عاشقةٍ معبَّقةٍ بحنينِ العناقِ، نحوَ صديقٍ من نكهةِ المطرِ، نحوَ صديقةٍ من بهاءِ الشِّعرِ، نحوَ نسيمِ الصَّباحِ، نحوَ تجلِّياتِ طاغور وأنا أهيِّئُ نفسي للغوص في أعماقِ حكمتِهِ، وحدَهُ قلمي يضربُ أحزاني عرضَ الحائطِ، وحدَهُ قلمي يحرقُ ميراثَ الدُّنيا المغشوشِ بحثًا عن شهقةِ الخيرِ والعطاءِ المنيرِ، وحدَهُ قلمي يستعيدُ مقامي إلى أعلى مرتفعاتِ جبلِ جودي، وحدَهُ قلمي صديق الفنِّ والشِّعرِ والأدباءِ وأزهى الأديباتِ، وحدَهُ قلمي يطمسُ غطرسات القُبْحِ، وحدَهُ قلمي يخلخلُ طغيانَ هذا الزّمانِ على فقراءِ العالمِ، وحدَهُ قلمي يؤنسُ ليلتي ويبهجُ روحي، وحدَهُ قلمي يضاهي مَن يقفُ في وجهي، وحدَهُ قلمي يمحقُ كآبتي وأنيني ويمنحني بهجةَ الارتقاءِ، وحدَهُ قلمي يعانقُ عاشقةً من عذوبةِ الماءِ، وحدَهُ قلمي يرفرفُ فوقَ أجنحةِ الخيرِ، وحدَهُ قلمي يناغي هديلَ اليمامِ، وحدَهُ قلمي يشمخُ عاليًا، مجابهًا ترّبّصاتِ الغولِ، وحدَهُ قلمي يموجُ ألقًا فوقَ جبالِ العطاءِ والبهاءِ وقداسةِ القداساتِ، وحدَهُ قلمي يهدهدُ قلوبَ الأصدقاءِ، ويحنُّ إلى إبداعِ الصَّديقاتِ، وحدَهُ قلمي يفرشُ تساؤلاته فوقَ قلوبِ مبدعينٍ ومبدعاتٍ من نكهةِ تلألؤاتِ النُّجومِ، وحدَهُ قلمي يموجُ شوقًا إلى زخّاتِ المطرِ، وحدَهُ قلمي يرفرفُ عاليًا بينَ تغاريدِ الطُّيورِ، وحدَهُ قلمي صديقُ العصافيرِ والأزاهيرِ والعسلِ البرّي، وحدَهُ قلمي لا يحيدُ عن درْبِ الوفاءِ، ولا يخشى سيوفَ الكونِ، وحدَهُ قلمي يلخّصُ العمرَ بجرَّةِ حرفٍ منبعثٍ توهُّجاته من حليبِ أمِّي، وحدَه قلمي يحنُّ إلى شروالِ والدي وهو يعبرُ البراري ويحمي حقولَ القمحِ من أبقارِ الغجرِ، وحدَهُ قلمي يستذكرُ فقراء هذا العالم، وحدَهُ قلمي يكتبُ شعرًا وحبًّا لمجانين هذا العالم، وحدَهُ قلمي استذكر “درو دينو” هذا الكائن الّذي ظلَّ في ذاكرتي وأنا في أعماق غربتي، هل وجدتم في تاريخكم مغتربًا واحدًا تذكّر “درو دينو” وكتب نصًّا عنه وكأنّه أخي من لحمي ودمي؟!
المشاعر يا أحبّائي هي إخوتي وأخواتي، والإنسان على وجه الدُّنيا هو أخي المنبعث من عرينِ الخيرِ، وأنا شاعرٌ مترهبنٌ للحرِف والإبداعِ والحلمِ، حلمي مفتوحٌ على مساحاتِ الدُّنيا، حلمي حرفٌ مجنّحٌ نحوَ هلالاتِ السَّماءِ، حلمي لغزٌ عميقُ الغورِ، حلمي من لونِ النّدى المتعانقِ معَ خدودِ الأطفالِ، حلمي عشقٌ مفتوحٌ بين أحضانِ الفرحِ رغمَ أنفِ الحزنِ، حلمي يبدِّدُ أحزاني المترصرصة فوقَ كاهلي، حلمي يحرقُ بكلِّ سلاسةٍ آهاتِ عمري الحزينة، حلمي عشقٌ مفتوحٌ على مصراعيه، يجمحُ بشغفٍ عميقٍ نحو آفاقِ الخيرِ عبر حرفي المتناثرِ فوقَ وجنةِ الحياة! أعشقُ أن أسلِّطَ حرفي على ما يراودني من بهجاتِ العطاءِ في حكمةِ الحياةِ، حلمي يتلألأ مثلَ تجلِّيات طاغور؛شاعرِ الهندِ الأوّل، شاعرِ الحكمةِ وبهاءِ الحياةِ. يا شهيقَ الشِّعرِ الشّامخِ فوقَ مهجةِ الأحلامِ، يا حبورَ القصيدة المسروجة على ضياءِ المحبّةِ والفرحِ واخضرارِ أغصانِ الرّوحِ، يا روحًا خلّاقة على امتدادِالأزمانِ، يا إشراقةَ بوحٍ من أزهى إشراقاتِ مزاميرِ الحياةِ، يا وهجَ الكلمة المعبّقة بابتهالاتِ السُّموِّ وتجلِّياتِ الحلمِ المنساب فوقَ مروجِ القلبِ. ينمو في فضاءاتِ بوحِكَ اخضرارُ الصّباحِ، وفي ظلالِ شعرِكَ تغفو أبهى الفراشاتِ. ينضحُ شعرُكَ بحبقِ الأزاهيرِ كأنّهُ رسالةُ عشقٍ متناثرة فوقَ خدودِ الدُّنيا. يتهاطلُ شعرُكُ أريجًا فوّاحًا فوقَ روابي الحياةِ كأنّهُ نعمةٌ متهاطلة علينا من قبابِ الحنينِ، من هلالاتِ حبورِ النّعيمِ. رؤاكَ يا طاغور متدفِّقة من ألقِ الأعالي، من صفاءِ السّماءِ، من لونِ حليبِ السّنابل، يا صديقي المنساب في أشهى مزاميرِ بوحِ الرّوحِ، يا إشراقةَ عشقٍ مجدولةً في أبهى اخضرارِ الكونِ. يا لونَ القصيدة المعبّقة برفرفاتِ أجنحةِ الحمامِ، يا هديلَ الحمائم المحلِّقة فوقَ بهاءِ زرقةِ السّماءِ، يا نسيمَ الصّباحِ المصفّى بحنينِ الحياةِ، يا حرفًا منقوشًا فوقَ خدودِ اللَّيلِ كوميضِ فرحٍ يفتحُ كوَّةَ أملٍ في عتمةِ المساءِ، يا شاعرًا مندَّى بأهازيجِ الوئامِ، يا غيمةً حُبلى بينابيعَ خيرٍ تزدادُ هطولًا فوقَ جراحِ الفصولِ، يا جنَّةَ أفكارٍ معشوشبةً بأرقى الأشعارِ. كم من التأمُّلِ حتَّى تبرعمتْ في رحاب دنياكَ أصفىَ ابتهالاتِ بوحِ القصائد!
طاغور رسالةُ حبٍّ إلى ربوعِ الدّنيا، حرفٌ شامخٌ في أرضٍ مغروسةٍ ببذورٍ مخصّبةٍ بأقانيمِ الفرحِ، حالةُ انبعاثٍ من حرفٍ مصفّى من رحيقِ الحياةِ، طائرٌ مفروشُ الجناحينِ يحلِّق فوقَ شموخِ الجبالِ، قصيدةُ حبٍّ مخضلَّةٌ بمذاقِ بهجةِ الحياةِ، شعرُكُ ينشرُ صفاءَ الرُّوحِ فوقَ هضابِ الكونِ، محبوكٌ من مآقي حنينِ الرّوحِ المستنبتة من انبعاثِ هلالاتِ السّماءِ. مرارًا زرعْتَ البسمةَ فوقَ أخاديدِ الحياةِ عبر أرقى تجلّياتِ القصائد، تُشبهُ حلمًا مجنّحًا على مساحاتِ حنينِ الغاباتِ، نبعَتْ من خيالِكَ حِكمٌ ناصعةٌ فوقَ خمائلِ الحياةِ. شعرُكَ ينبوعٌ صافٍ من الماءِ الزُّلالِ، ينسابُ في أعماقِ الصَّحارى والبوادي، تسقي أشعارُكَ قلوبًا عطشى إلى دروبِ المحبَّةِ، ينقشُ حرفُكَ هدهداتِ الحنينِ فوقَ شموخِ الرّوحِ، وهي تحلِّقُ عاليًا نحوَ أصفى مرامي الغمامِ، انبلجَ حرفُكَ من رحابِ تجلِّياتِ عقلٍ خلَّاقٍ، مجنّحٍ نحوَ أنقى تجلِّياتِ حكمةِ الحِكَمِ!
يا صديقَ الطّبيعة وصفاءِ البحار، يا صديقَ النّسيمِ المنسابِ في صباحاتِ الرَّبيع، يا غيمةً حبلى بالخيرِ، تتهاطلُ فرحًا وفيرًا فوقَ خدودِ الحياةِ، يا حاملَ أجنحةِ الحكمةِ، محلِّقًا فوقَ أمواجِ البحارِ، شوقًا إلى أرضٍ عطشى لتجلّياتِ وهجِ الاشتعالِ، يا حكايةَ حبٍّ طافحٍ بأنضرِ أبجدياتِ العطاءِ، رؤاكَ محبوكةٌ من حبورِ المحبّة، من اخضرارِ السّنابل، من وهجِ الخيرِ وأبهى هلالاتِ السَّلامِ!
أيّها المطر الهتون، أيّتها الغيوم المباركة، بلِّلَا روحَ طاغور بأنقى ما في سموِّ السِّماءِ!
ستوكهولم: (14/ 10/ 2015) صياغة أولى.
(9/ 9/ 2019) صياغة نهائيَّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم المؤلِّف: صبري يوسف.
عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.– مقالات نصوص أدبيَّة.- الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).
الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).- تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.- صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.- حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.
دار نشـر صبري يوسف – [email protected]
Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*يليه بالنشر مجموعة الجزء الثاني :