https://www.facebook.com/fotoartbookcom
مجلة فن التصوير :
www.fotoartbook.com
مجلة المفتاح :…
معلولا …بين تجربتين، الكيالي وصابور
طلال معلا
باحث في الجماليات المعاصرة
تشكل المواقع، طبيعية أو أثرية، الملامح الحضارية للشعوب، ولطالما كانت رموزاً يستوحي منها الفنانون والمبدعون بشكل عام روح أعمالهم والأعماق المعنوية لمنجزاتهم المعاصرة، مقتدين بالحالات والإحالات الحسية غير المتوفرة بالحاضر، وعلى الأخص ما يشير إلى الدلالات الإنسانية التي باتت تشكل ملاذاً للأرواح التي تبحث عن متكئ يربط الحاضر بالماضي…إنه إغواء الأماكن التي تختزن التاريخ والتي تتحول بفعل حضورها في الزمن مادة مشتهاة من قبل المبدعين يعيدون صياغتها كل مرة بصورة حميمية.
معلولا.. المدينة الأثرية والدينية والسياحية الهامة يأتي منظرها العام من أهم ميزاتها الجمالية حسب التصنيفات الوطنية والدولية ، وتشكل العلاقة بين الإنسان ومحيطه الطبيعي أولى مميزات هذه العلاقة، فالبيوت المتراكبة والمتدرجة على الجبل تتعانق بأقصى ما يكون من المودة والحنان، ولهذا فإن لنسيجها العمراني خصوصية المعرفية و الزخرفية التي تجمع العفوية بالقصد، والليونة بالقسوة لتتصالب الخطوط في قراءتنا لمشهديتها الذي يكمله الفجان الشرقي والغربي وهما من معالمها الطبيعية الأخاذة التي تضم عشرات المدافن والكهوف ليكتمل المشهد وتبدو الصورة البصرية أكثر وضوحاً ودلالة .
رسم معلولا الكثير من الفنانين، إلا أن تجربة الفنان لؤي كيالي “1934- 1978 “في علاقته بمعلولا بقيت الأكثر تميزاً وعمقاً، إذ كان يسكنه حزن وصمت رهيب، ربما وجد صداه في توحده مع هذا المكان الجليل، وربما كان لؤي يعبر في معلولاته عن مساحات روحه و وجوده وكيانه، معتمداً في إبراز ذلك على التكوين المعماري والتاريخي و الأنسي والألسني للمكان، ليحول عمارة معلولا إلى عمارة حنونة ومتجانسة ومتضامنة يحس الناظر إلى تكويناتها وكأنه ينتمي إليها، وإلى خصوصية جمالياتها.
لم تكن صورة الموت هي الأبرز بالرغم من سوداوية كآبة الكيالي وعمق حزنه، بل تجلت الحياة أكثر في رصده للمعمار المعلولي، ومحاولة الاستفادة القصوى من تغييب الحضور الانساني في خلوياته ومشهدياته العامة. ليبقى حضور المدينة بتفاصيلها المعمارية هو الأبرز.
أما الفنان نزار صابور” 1958 ” فقد ركز في أعماله الأخيرة على منطقة القلمون، وعلى الاخص مدينة معلولا كمكان امتدت إليه براثن الحرب والدمار والخراب والهمجية غير المسبوقة، وإضافة لما يمثله المكان من دلالات لها ذاكرتها في تاريخ البشرية، فإن ما وقع عليها إنما كان لتدمير خصوصية جمالياتها الإنسانية ، ولهذا فقد اعتمد صابور إلى جانب الدلالات الروحية على ثقافة واسعة وشاملة لفهمه للمكان كأساس مشترك يبرز انتماءه الذي عبر عنه بشفافية بالغة يدعوها الواقعية المشرقية التي لا تحاكي الواقع بدقة وهندسة وإنما بالاعتماد على الأحاسيس وانعكاس صورة الواقع في نفس المشرقي وبكامل خصوصية الروح التي تعبر عن هذه المنطقة.
استقطبت معلولا الكثير من الاهتمام إثر تعرضها للعدوان، ليس للتعويض عن جماليات مفقودة وحسب، بل لإبراز موقف الفن من الحرب، وهي قضية تكررت مع تدمر .إذ يمثل العدوان على الرموز الجمالية عدواناً على الإنسان أينما كان، الإنسان الذي يطمح باستمرار للاستقرار والسلام والحياة بأمان.
اللون والمادة، رائحة الأرض،الأسود والرمادي، والوصول إلى الحالة النفسية للمشاهد عبر هذين العنصرين، اللون والمادة. ولهذا فحين يخصص بعض لوحاته لمعلولا فإن مرجعيات أيقونية تبدو واضحة في إحالاتها الروحية، دون أن تضم إشارات مباشرة إلى محتويات اللوحة الأيقونية التقليدية.. إنها ذاكرة المكان ، العنصر الأشد حضوراً في قراءة أعمال صابور بصرياً. الذاكرة التي لا يلجأ الفنان في إبرازها للتعبير، وإنما بالاعتماد على اختراق المحسوس لاستنطاق ما يخفيه. وليس من الصعب على المتلقي التقاط التفاصيل لتكوين الموضوع المطروح. فالصور المتفرقة للشخوص والأشكال والأبنية والأبواب والخزائن والمرايا والمحفورات والكنائس وسواها، كلها تشكل إحالات واضحة على عمق فهمه للمكان، والتي يعبر عنها بحرفية بالغة تصل إلى حدود السرد البصري، بكل ما يحتويه من إشارات تنقل الصور من إحالاتها الدينية إلى العلاقات النورانية، وبصوفية تتجاوز التوقع – خاصة – حين تمتد يد المشاهد لتلامس مواد اللوحة، الرماد والرمل، بامتزاجهما الفعال، الرماد بدلالاته ورموزه وإحالاته اللونية التي تدل على الغياب والفقد.. هكذا يحضر التاريخ والتراث والأساطير الشعبية والحكايات، هكذا تتبدى الهوية في عمق صلة معلولا بالحياة والموت.
هناك الكثير مما يجمع تجربة لؤي و صابور وأول مايجمعهما القيمة الشعرية الفنية التي منحها المكان لكليهما، والتقشف اللوني، واختزال الخطوط والأشكال.
والصمت الواضح و الجلي الكامن خلف لوحاتهما. يجمعها كما يجمعهما أيضا السرد البصري ، أي الإباحة عما يقصده الفنان سواء كان مكانا أو فكرة للمخاطب السردي أو المتلقي السردي للنص البصري، فالتصوير بذاته خطاب يقدم حدثا سواء عبر الشكل أو المعنى على غير هيئة أو مثال كون اللوحة منتجاً متغيراً موضوعاً وفعلاً ، تصريحاً أو إخفاء ليبقى الفنان هو السارد الأوحد الذي يختار مواده وبنية عمله وبنائه. وإذا جاز لنا دراسة كلا الفنانين عبر نتاجهما فإننا لا نذهب بالتأكيد لإبراز الكفاءة بين الاثنين عبر موضوع مشترك، وتعليل قدرة كل منهما على إنتاج عمل فني يكون قابلاً للتأثير في المتلقي.
اليوم، ونحن نقلب صور أعمال الفنانين كيالي و صابور، نحاول التركيز على البؤرة المركزية في بعض منجزهما، والغاية التي يتمحور حولها تقديم مدينة معلولا، حيث يختفي الفنان، وتغيب قدراته وسلوكه مقابل حضور الزاوية التي يرى عبرها موضوعه، وكل ما يجعلنا نحدد المعايير التي يمكن أن نتلقى عبرها عمله الفني، رغم أن اللوحة بشكل عام ينبغي أن تقدم نفسها بنفسها ببلاغة بصرية توسع مفاهيم التخيل الذي يتجاوز المنجز المادي، أي اللوحة بذاتها.
أمر أخر يجمعها أيضاً ، هو أن كلا الفنانين إنما يؤرخان للمدينة بمنجزها الذي يستوعب الكثير من السرد، خاصة أن كلا منهما لا يسعى للمطابقة الوصفية في روايته البصرية للمكان أو الحدث، قدر إعادة تأليف المشهديات المبصورة أو المتخيلة، المعروضة أو المخبر عنها، وكل ما تستدعيه أيقونية المشهد التي تقدم نفسها بعيداً عن الفنان أو المتلقي. الأيقونة التي تفرض ذاتها، سواء كانت وحيدة الصوت كما في منجز الكيالي أو متعددة الأصوات كما في تجربة نزار صابور ، وبقدر ما يدخل الأول أغوار نفسه معبراً عن صمت مطبق يثقله الحزن والوحدة وإقصاء الآخرين ، يبرز الآخر الفكرة على حساب الشكل ومحاولة تصوير الوعي بالمكان بصورة معاصرة من خلال ذاكرة ذاتية. أخيراً أريد أن أقول أن شكل التعبير لدى الفنانين هو العنصر الثابت بينما مادة التعبير هي العنصر المتغير. فالتجليات المرئية هي مادة التعبير عبر تعينها المادي، إلا ان تلقيها والتفاعل معها يحول ماديتها إلى خبرة ذاتية مؤثرة، أي الانتقال من الخارجي إلى الداخلي كخبرة يجرب استثمارها تأسيساً على معارف مسبقة، تقود الموضوع المادي إلى الموضوع الجمالي.
تبقى معلولا، الحكاية الموحية حاضرة إذن في الخطاب التشكيلي والبصري السوري، وتبقى إطاراً جمالياً تدور في فلكه الحكايات، ولقد اعتبرتها أساساً للمناظرة بين طرفين سواء كموضوع أو كسياق زمني جرى عبره الوقوف أمام لحظتين زمنيتين من عمر التشكيل السوري دون أن يكون القصد هو الوصول إلى حكم على إحدى التجربتين قدر الإشارة إلى الكشف عن تغير في الحالة البصرية جراء تبدل الأحداث والزمان والإنسان.
2016