يمثل “كتاب الجيب” ظاهرة راسخة في حركة النشر العالمي ولا سيما الأوروبي والأميركي، وليس ممكناً بتاتاً فصل هذه الظاهرة التي ترسخت بدءاً من القرن التاسع عشر، عن مفهوم النشر ومعاييره. بل هو بات تقليداً أدبياً وثقافياً وتجارياً إن أمكن القول، بعدما فرض نفسه في قلب ما يسمى الإستراتيجية التجارية لحركة النشر المعاصر في أوروبا وأميركا. والمنحى التجاري هنا لا يلغي البتة المنحى الأدبي والثقافي لهذا الكتاب الذي بات بمثابة الخبز اليومي للقراء الذين ينتظرون صدوره المتتالي. أما في العالم العربي فما زال “كتاب الجيب” مجهولاً أو شبه مجهول، ولم يتمكن من فرض نفسه كظاهرة في عالم النشر والقراءة، على الرغم من بعض المحاولات التي قام بها ناشرون في بلدان عربية عدة.
زرت في العام 2003 معرضاً ضخماً أقامه مركز بومبيدو في باريس احتفالاً بالذكرى الخمسين لانطلاق “كتاب الجيب” الفرنسي، وفيه تم استعراض تاريخ هذه الظاهرة عبر عرض الأغلفة والصور والنصوص التي تتناول الحقول التي تتوزع فيها الكتب الصغيرة، عطفاً على الوثائق والخرائط التي تكشف مسار هذه الكتب. وأبرزت إحصاءات للمبيعات بدءاً من العامين 1957و1958 رقماً مهماً حينذاك هو 8 ملايين نسخة. لكن هذا الرقم ما لبث أن تصاعد سنة تلو سنة وبلغ في العام 1969 رقماً بارزاً هو 28 مليوناً. وتفيد الإحصاءات الفرنسية الجديدة أن رقم الكتب المبيعة بلغ حتى الآن مليار نسخة. وفي العام 2012 وحده بلغ الرقم 18 مليوناً. هذا في فرنسا. أما في البلدان الإنغلوفونية فالأرقام كبيرة، بل هائلة.
كتاب وقراء
ولئن سمي هذا الكتاب في فرنسا “كتاب الجيب” (ليفر دو بوش) وتولت دور نشر تسميته كلاً على طريقتها (فوليو، جي لو…) ففي ألمانيا مثلاً ارتبط اسمه بدار “الباتروس بوك” وفي بريطانيا بدار “بنغوين بوكس” وفي أميركا أطلقت عليه دار “سايمون إند شوستر” اسم “بوكيت بوكس”، ناهيك عن بلدان أخرى مثل الصين واليابان والهند وبلدان أميركا اللاتينية التي تشهد حالاً من الإقبال الشديد على “كتب الجيب”. أما المكتبات الغربية والعالمية فتوليه كبير اعتناء، وتفرد له مساحات واسعة وتقدم سلاسله في أجنحة بارزة. حتى الصحافة الأدبية تقدم للقراء دوماً لوائح بالكتب الجديدة، بغية اطلاعهم على العناوين الكثيرة التي يتوالى صدورها بوفرة. ويبدو جلياً أن “كتاب الجيب” الفرنسي يخضع لسياسة في النشر طليعية جداً وفريدة جداً، وبلغت مجموعاته ثلاثمئة وسبعين لدى الناشرين، وتوزعت حقول هذا الكتاب بين التاريخ والأدب القديم والجديد والدين والفن والجغرافيا والإركيولوجيا والأدب البوليسي والعلوم والعمل الموسوعي. أما اللافت هنا فهو انتظار عدد كبير من القراء صدور طبعة “الجيب” من الكتب العادية خصوصاً الروايات التي تصدر خلال السنة وتكون أسعارها عادة مرتفعة، ليبتاعوها بسعر زهيد نسبياً.
غياب عربي
في العالم العربي لا يزال “كتاب الجيب” غائباً أو شبه غائب، سواء عن سياسة الناشرين وخططهم وعن تقاليد القراءة أو عاداتها. لم يستطع الناشرون العرب أن يرسخوا ظاهرة هذا الكتاب ولا أن يمنحوا القراء فرصة اختباره والاعتياد عليه. بعض المحاولات التي قام بها قلة منهم، في بلدان عدة، لم يتسنّ لها أن تثبت وأن تستقل بصفة خاصة. ومعظم “كتب الجيب” التي راجت في بيروت والقاهرة وبعض المدن المغربية، لم تكن مهمة ولا جديرة بالقراءة، إن لم تكن سطحية وتجارية في أحيان كثيرة، ومنها روايات بوليسية وخيال – علمية وعاطفية. علاوة على بعض الروايات المترجمة مثل روايات أغاتا كريستي وشارلوك هولمز.
لكن يمكن استثناء عدد قليل من مشاريع “كتب الجيب” لم يكتب له الرواج المفترض، ومنها مشروع سلسلة “شراع” المغربية التي انطلقت في مدينة طنجة عام 1995 ولم يقدّر لها أن تدوم أكثر من ثلاث سنوات، مع أن مبيعها بلغ الملايين. ويبرر صاحبها الكاتب خالد مشبال سبب توقفها، بالعجز المالي على الرغم من رواجها، فسعر الكتاب كان عشرة دراهم أي ما لا يغطي كلفة نشر الكتاب الواحد. كانت هذه السلسلة مغربية صرفة، في موضوعاتها وقضاياها وكان القراء ينتظرونها شهرياً. في بيروت أطلقت دار رياض الريس في مطلع التسعينيات سلسلة “كتاب جيب” روائية وقصصية ونشرت أعمالاً مهمة لكتّاب عرب كبار وشباب، ونجحت فعلاً في الوصول إلى شريحة كبيرة من القراء العرب. لكنها ما لبثت أن توقفت لتواصل الدار نشر الكتب في صيغتها العادية وأحجامها المعروفة أو “الستاندرد”. في مصر تتولى المؤسسة العربية الحديثة ملء الفراغ في حقل “كتاب الجيب” المصري وتعمد إلى إصدار كتب كثيرة صغيرة الحجم وزهيدة الثمن، لتنافس الكتاب الرسمي ذا السعر المنخفض. لكن كتبها شعبية جداً وتدور في حقول الراوية البوليسية والخيال – علمية والخرافات والتقنيات. وقراؤها لا علاقة لهم بالأدب والثقافة والمعرفة. وفي مصر أيضاً تعمد دور صحافية عدة إلى إصدار كتب صغيرة الحجم ومنها مثلاً دار الهلال التي تصدر كتباً مهمة في حقول عدة. إلا أن “كتب جيب” أخرى مهمة تصدر في العالم العربي لكن مترجمة، منها مثلاً سلسلة “ماذا أعرف” المأخوذة عن سلسلة فرنسية تحمل العنوان نفسه، وهي كتب معرفية وموسوعية موجزة. ولا يمكن التغاضي هنا عن الكتب الصغيرة الحجم التي توزع مجاناً مع مجلات عربية فصلية أو شهرية مثل “الفيصل” و”نزوى” و”الدوحة” و”دبي الثقافية” التي توقفت لتحل محلها مجلة “الشارقة الثقافية”… هذا الكتاب الصغير الذي يوزع مجاناً مع المجلة هو هدية جميلة يتلقاها القارئ.
اسباب التراجع
لماذا لم تترسّخ ظاهرة “كتاب الجيب” عربياً؟ لماذا لم يولِ الناشرون العرب هذا الكتاب الرائج عالمياً اهتماماً؟ الناشرون يملكون أجوبة واضحة يمكن اختصارها بالآتي: عدم الربح. وهذا الجواب الذي يتردد على ألسنة الناشرين، لا يشفي غليل القارئ الباحث عن هذا الكتاب الصغير الذي يوضع في الجيب ويسهل حمله والتنقل به. الأمين العام لاتحاد الناشرين العرب الناشر بشار شبارو أجاب عن الأسئلة التي طرحتها عليه “اندبندنت عربية” موضحاً أسباب عدم بروز ظاهرة “كتاب الجيب” عربياً. يقول بشار: “أستطيع التحدث باسم إخواني الناشرين العرب في هذه المسألة من دون تردد. ويمكنني اختصارها في ثلاث نقاط. النقطة الأولى تتعلق بالمردود المالي لـ “كتاب الجيب”. مثلاً في أوروبا أو أميركا تصدر الطبعة العادية لأي كتاب سواء كان رواية أو مجموعة قصصية أو ديواناً أو نقداً… فيشتري الطبعة هذه من يشتريها من القراء وينتظر الكثيرون صدورها لاحقاً في طبعة الجيب ليشتروها بسعر زهيد. في العالم العربي وأقولها بوضوح، كلفة الطباعة تكاد تكون هي نفسها، في النسخة العادية ونسخة الجيب. وقد حاول ناشرون اعتماد هذه السياسة واكتشفوا حقيقة الكلفة. وباختصار لا فائدة مادية من “كتاب الجيب” للناشرين العرب، فنسبة البيع هي نفسها. النقطة الثانية تتمثل في أن القراء العرب تهمهم الطبعة الأولى الصادرة للفور، إنهم يفضلون الطبعة العادية أو الكبيرة نسبياً أكثر مما يميلون إلى طبعة الجيب. هذا تقليد موجود فعلاً. وقد يكون القراء الصغار والفتيان ميالين أكثر إلى طبعة الجيب وهذا معروف. النقطة الثالثة اختصرها في خشية الناشرين من سرقة الكتب الصغيرة الحجم أو طبعات الجيب. وأقولها بصراحة، غالباً ما تتعرض طبعات الجيب للسرقة في المعارض وحتى في المكتبات لسهولة سرقتها وضبها في الجيوب. وقد عانى ناشرون كثر من هذه السرقة. الآن يفضلون عرض الكتب الصغيرة بالقرب من صناديق الدفع، فهناك تتم مراقبتها أكثر”. ويختم شبارو كلامه قائلاً: “معروف أن سرقة الكتب خصوصاً الصغيرة الحجم، منتشرة كثيراً في بلدان عدة، وفي معارض الكتب تحديداً حيث من الصعب مراقبة حركة الجمهور”. وأساله ممازحاً: “أليست ظاهرة سليمة سرقة الكتب في زمن عربي تنحسر فيه القراءة؟”. يضحك ويقول: “لا جواب”.