تواصل الكاتبة السورية المقيمة في باريس غادة السمان إصدار حواراتها الصحافية في كتب، وأحدثها “تعرية كاتبة تحت المجهر” (دار غادة السمان، 2019) وكانت سبقته كتب أخرى مثل “القبيلة تستجوب القتيلة” و”استجواب متمردة”…
اللافت أن السمان أجرت حوارات كثيرة في مسارها الأدبي بدءاً من منتصف الستينات بعدما غادرت دمشق، حتى اليوم، وهي لا تزال تجري الحوارات، تتحدث فيها عن جديدها أو عن حياتها وماضيها وقراءاتها وأصدقائها والمدن التي أقامت فيها. وقد تكون غادة من أغزر الكتّاب والكاتبات في إجراء الحوارات الصحافية مثلها مثل نزار قباني أو عبد الوهاب البياتي وسواهما. وقد حاورها صحافيون وكتّاب من أجيال مختلفة، بعضهم يكبرونها عمراً وبعضهم يجايلونها وآخرون ينتمون إلى فئة الشباب.
وواضح أن معظم حوارات غادة السمان مع الصحافة إنما تتم عبر المراسلة، أي أن الصحافي يرسل إليها أسئلته وهي تردّ عليه كتابياً. ونادرة هي الحوارات التي أجرتها مشافهة أو وجهاً لوجه، كما أنها لا تطل بتاتاً على التلفزيون ويكاد قراؤها الكثر في العالم العربي يجهلونها شخصياً، فهي تؤثر دوماً البقاء في الظل بعيداً عن الكاميرات وآلات التصوير. وهي غالباً ما توزع صوراً لها ونادراً ما تسمح للمصورين بالتقاط الصور. ولعل هذا
“التواري” هو ما أضفى عليها هالة خاصة بين الكتّاب والكاتبات، فهي لا تحب الظهور وتؤثر أن تترك مسافة بينها وبين قرائها وعامة الناس. وفي هذه الخصال تشبه غادة صديقتها المطربة الكبيرة فيروز التي تعيش في حال من العزلة عن الإعلام والحياة العامة. لكنّ تواري غادة عن الإعلام كله، لم يعن يوماً أنها غائبة عن الساحة الثقافية والأدبية، وعن حركة الترجمة إلى اللغات الأجنبية. بل هي حاضرة من خلال إصداراتها التي باتت تقارب الخمسين كتاباً بين القصة التي كانت منطلقها الأول والرواية التي كان لها فيها تجارب تأسيسية، ثم الشعر والمقالة علاوة على النصوص الحرة والخواطر والقراءات… وكتبها على اختلاف حقولها يُعاد طبعها مرات، نظراً إلى إقبال جمهورها على قراءتها جيلاً تلو جيل. وقراء غادة يختلفون عمراً وذائقة وأمزجة، وقد تجد أحياناً أن الأسرة تقرأها بكاملها بأجيالها الثلاثة، على خلاف كاتبة مثل أحلام مستغانمي التي تقرأها الشابات والفتيات، عطفاً على القراء المهتمين بالرواية.
الكتاب الجديد “تعرية كاتبة تحت المجهر” يضم ثمانية وعشرين حواراً والمحاورون ينتمون إلى كافة أطياف الصحافة العربية، إضافة إلى مستشرقة إيطالية. والحوارات تختلف وفق الصحافيين أنفسهم، والأسئلة التي يعدونها ويرسلونها إلى كاتبتهم. أحد الصحافيين أجرى معها ثلاثة حوارات متشابهة. ومعروف أن غادة شديدة الكرم في حواراتها الصحافية ولا ترد طلب أحد، حتى لتبدو وكأنها “كرم على درب”، ويلجأ إليها، بعض الصحافيين وبخاصة المستكتبين، إليها عندما يحتاجون إلى حوار مع كاتب مهم، بغية الحصول على مبلغ مادي من الصحيفة طبعاً. ومحاورة غادة سهلة ولا تحتاج إلى جهد كبير، يرسل الصحافي الأسئلة وينتظر الأجوبة التي ترده مكتوبة “خالصة” بخط غادة الجميل. وحتى الآن لا تزال صاحبة “عيناك قدري” على خلاف مع الكومبيوتر والإنترنت والفيسبوك، لم تستسلم لإغراءات التواصل الإلكتروني مثلها مثل الشاعر أدونيس. بل هي ما
برحت تكتب بالقلم وتعتمد الفاكس لإرسال أجوبتها ومقالاتها. إنها خارج سلطة الأرقام التي يتباهى بها بعض الكتاب والكاتبات اليوم. لا ألوف ولا ملايين يتابعونها عبر السوشيل ميديا كما يحصل مع أحلام مستغانمي التي فاق عدد قرائها الافتراضيين كما تدعي، عدد قراء الكاتبة البريطانية ج. كي. رولينغ صاحبة سلسلة “هاري بوتر”. قراء غادة حقيقيون وليسوا وهميين أو “مزيفين” مثل الكثيرين من قراء الإنترنت والفيسبوك… قراء غادة هم قراء كتب ويحبون رائحة الورق، ناهيك طبعاً عن قراء كتبها المقرصنة على شاشات الكومبيوتر، وهم كثر.
وعودة إلى حوارات غادة السمان التي تتراكم، فهي تعد مراجع لقراءتها والاطلاع على آرائها في الأدب والرواية، وعلى فلسفتها ورؤيتها إلى الحياة والوجود والجنس، وعلى أفكارها الثورية أو المتمردة وعلى نواح من سيرتها الشخصية ومسارها التاريخي. ولو بدت بعض الحوارات مكررة فهي لا تفقد وهجها أو أهميتها، فهي بمثابة النص الآخر الذي كتبته وتكتبه غادة، ببراعة ومراس، ولكن انطلاقاً من أسئلة يطرحها عليها آخرون. ويمكن، من خلال هذه الحوارات الوقوف على خلاصات فكرية وأدبية تساعد النقاد في كشف عالم هذه الكاتبة الكبيرة. والجميل أن غادة تختار دوماً عناوين مثيرة واستفزازية للكتب التي تضم حواراتها، وقد يكون عنوان الكتاب الجديد خير مثل: “تعرية كاتبة تحت المجهر”.