يتموقع طارق نادري (1995) بين دراسة الإدارة المالية التي يوشك أن ينال فيها شهادة جامعية عليا، وفنّ الصّورة الذي يقول إنه يحتاج إلى إدارة خاصّة تحكمها رؤية وعواطف خاصّة جدًّا، يمكن أن تُدرس، لكن التمكن منها/فيها ليس متاحًا للجميع.
قرّر طارق نادري أن يشحن صوره برسائل إنسانية ذات بُعد خيري بالتوجه إلى التقاط ملامح الأطفال اليتامى والمحرومين
عن هذه الرّؤية والعواطف، يقول طارق لـ”ألترا صوت” إن التصوير بات مرتبطًا بحرية الإنسان المعاصر، يمارسه كما يمارس أيّ فعل إنساني آخر، “فهو يظل دليلًا على الثورة الحاصلة في التواصل الإنساني وثمرة لها، لكن خضوعه لوعي معيّن، هو ما يرقى به إلى مقام الفن”. يشرح طارق نادري فكرته: “هناك من يصوّر تأريخًا للحظته الذاتية، خاصّة في زمن مواقع التواصل الاجتماعي، حيث نوشك على أن نصوّر حتى خلواتنا الحميمة، ومن يفعل ذلك تأريخًا للحظات إنسانية عامّة، حتى يلفت الانتباه إليها، ويجعل الناس يتشاركونها، في زمن طغت فيه الأنانيات الصّغيرة في هذا الباب”.
اقرأ/ي أيضًا: الكتابات الحائطية في الجزائر.. مرايا مهملة
كانت اهتمامات طارق نادري متعدّدة في فنّ التصوير، فهو شغوف بتصوير الطبيعة، في تفاصيلها الصّغيرة، التي تثير التأمّل وصفاء النفوس، “لا أحبّ تصوير الشجرة بل غصن منها، ولا تصوير الوادي بل قطرة منه، إذ يثيرني ويُثريني الجزء أكثر ممّا يفعله الكلّ”. هذا الشغف لدى طارق نادري يشبه شغفه أيضاً بتصوير الإنسان في وضعيات غير معتادة، كأن يكون في حالة ارتفاع عن الأرض، “المشي أو الجري أو النّوم أو الأكل أفعال إنسانية باتت معتادة، فعمرها من عمر الإنسان، لذلك ارتأيت الانزياح بها إلى وضعيات غير معهودة، بحثًا عن رسائل مختلفة، عادةً ما تكون ذات أبعاد روحية”.
في السّنوات الثلاث الأخيرة، قرّر طارق نادري أن يشحن صورته برسائل إنسانية ذات بُعد خيري، بالتوجّه إلى التقاط ملامح الأطفال اليتامى والمحرومين، في حالتيها السّعيدة والحزينة، “لا أسمّي هذا التوجّه التزامًا فنّيًا، فالفنّ ملتزم بالضرورة، شريطة أن نوسّع أفقنا في التعاطي معه، فالواجب أن نحكم عليه بشروطه هو لا بشروط خارجة عنه، لكنه توجّه أملته عليّ استجابتي العفوية للنداءات العميقة والمبحوحة، التي كنت أقرؤها في عيون الأطفال”.
يشرح طارق نادري سياق هذا التوجه أكثر: “التحقت متطوّعًا في “جمعية الأمان لرعاية وتربية الأيتام” في محافظة تيارت، 600 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، واكتشفت أن أفراد هذه الشريحة من الصّغار لا يعبّرون عن حاجاتهم وحالاتهم وأوجاعهم وأحلامهم وهواجسهم، من خلال الكلام، كما يفعل الأطفال الذين يحضر الآباء في حياتهم يوميًا، بل من خلال النظرات والملامح، فغياب الأب عندهم يخلق صمتًا خاصًّا، فكأنك أمام قاموس من نوع مختلف تمامًا”.
طارق نادري: “ينظر اليتيم إلى أبيه الراحل في الإنسان الذي يكون أمامه، وهو ما يستفزّ إنسانيتنا، فقررت أن أتفاعل بآلة تصويري”
يضيف طارق نادري: “هذه النظرات والملامح، هي أكثر ما يثير آلة التّصوير في بعدها الإنساني، فيجد المصوّر نفسه يستعملها بشكل عفوي، من غير أن يبذل جهدًا في ترتيب المشهد، لأنه يكون جاهزًا وطازجًا وصادقًا، ذلك أن الطفل اليتيم لا يكذب، بل يُكذب عليه، وعادةً ما يكون ينظر إلى أبيه الرّاحل في الإنسان الذي يكون أمامه، وهو المقام الذي يستفزّ إنسانيتنا، فهناك من يتفاعل بماله ومن يتفاعل بحنانه، بينما قرّرت أنا أن أتفاعل بآلة تصويري”.
اقرأ/ي أيضًا: محمد أمين رفاس.. مناضل شاب لأجل المسرح
من هنا، تتجاوز الصّورة التي يلتقطها طارق نادري كونها عملًا فنّيًا، إلى كونها وثيقة على حالة إنسانية عميقة أيضًا، في زمان معيّن، فتفعل فعلها السّحري في النّفوس، دافعةً إياها إلى أن تنتبه إلى كثير من المعطيات التي كثيرًا ما نغفل عنها، “منها أن نثمّن نعمة أننا نملك أبًا على قيد الحياة والعطاء، ذلك أنّ الحرمان الناجم عن اليتم، من أعمق أنواع الحرمان، لارتباطه بفقدان إنسان يرى سعادتنا هاجسه الأوّل، حتى أنه يحرم نفسه ويمنحنا، وخلق حالة من التعاطف لدى من يرى هذه الصّورة، فيتفاعل عفويًا مع المشاريع الخيرية المتوجهة إلى هذه الشّريحة”.
ويقرّ طارق نادري أن كثيرًا من صوره أثمرت تفاعلاتٍ من طرف كثير ممّن شاهدوها، “وهذا يعني أنها لعبت دورها الذي التقطت من أجله، ليكون أجري هو تلك السّعادة التي أراها في العيون”. من هذه الصّور المؤثرة تلك التي كان أحد اليتامى يضع فيها عودًا صغيرًا داخل فمه، بدل حبّة الحلوى، بكلّ ما تعنيه حبّة الحلوى لطفل لم يبلغ سنته الرّابعة، “إذا كان الحرمان قد تجلّى في حبّة حلوى، فكيف باللّقمة والشّربة والكسوة؟”.
عزّز طارق نادري مؤخرًا مسعاه الفوتوغرافي هذا بإنجاز فيديوهات وأفلام قصيرة أو المشاركة فيها، تصبّ في الهدف نفسِه، كان آخرها فيلم “لست وحدك” للمخرج فتحي كافي، حيث تمّ تمرير رسالة إلى هذه الشّريحة التي ازداد عددها في السّنوات العشرين الأخيرة، بسبب تجربة العنف والإرهاب وحوادث المرور والأمراض المختلفة، مفادها أنّ رعاية اليتيم هي المحرار الذي نقيس به حرارة إنسانيتنا.