تعدّ رواية “نجمة” للروائي الجزائري كاتب ياسين إحدى الروايات الخالدة في تاريخ الأدب الجزائري، رواية كتبت في منتصف القرن الماضي. عنوانها والكثير من تفاصيلها، استمدها كاتب ياسين من حكاية قديمة، قصة أخفاها التاريخ واختبأت بين أسوار مدينة قسنطينة، إنها أسطورة “البوغي”.
قسنطينة ليست مدينة الجسور فقط، إنها مدينة الفن والعلم والتاريخ، مدينة التعايش، وممر حضاري منذ القدم، إنها مدينة بألف وجه
و”البوغي”، هي إحدى قصص الحب التي يتداولها سكان سيرتا إلى يومنا هذا، قصة جمعت “جاب الله، الفتى القادم من مدينة عنّابة والذي وقع في حب “نجمة” الفتاة القسنطينية. اختلف الرواة في سرد ثنايا الحكاية وتفاصيلها، لكنها خلّدت في إحدى أجمل قصائد فن “المالوف”، واشتهر بتأديتها محمد الطاهر الفرقاني عميد هذا الطبع الغنائي الأندلسي الذي تبنّته المدينة، فما إن تدخل مقهى، أو تستقلّ سيارة أجرة إلا وتطرب أسماعك بقصائد جميلة ومعزوفات تأخذك في رحلة في هذه الحاضرة التاريخية.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا سيبقى من أعراس قسنطينة؟
“قسمطينة” كما يسميها أهلها، ليست مدينة الجسور فقط، إنها مدينة الفن والعلم والتاريخ، مدينة التعايش، وممر حضاري منذ القدم، إنها كتاب من ألف صفحة توالى على تدوينه النوميديون والرومان واليهود والأتراك والعرب والفرنسيون، إنها مدينة بألف وجه.
إن المتجول في شوارع قسنطينة للوهلة الأولى، يرى هذا الزخم الحضاري الذي عاشته المدينة، ففي ساعة من الزمن تنتقل من الحي اليهودي، مرورًا بالجامع الكبير، تصادفك أقواس رومانية، لتجد نفسك أمام مبان فرنسية في وسط المدينة، وتجد غير بعيد عنها قصورًا عثمانية، لتستقبلك جسور المدينة السبعة، التي صارت ثمانية بعد فتح جسر صالح باي العملاق، وتجد نفسك تتجول في أزقة القصبة وسوق العصر القديمة، قسنطينة أيضًا هي مدينة الحاضر، كتبها أبناؤها بأحرف من ذهب، ففي زوايا المدينة كبر وكتب مالك حداد وكاتب ياسين، هناك درّس عبد الحميد بن باديس ونشر علمه، وفي أركان المدينة تسمع صدى أنريكو ماسياس وهو يغني ويعزف على قيثارته في أعلى الهضبة.
تحمل المدينة اسم “قسطنطين” الإمبراطور الروماني الذي حكمها فترة طويلة، لكن سكان المدينة وقلوبهم ارتبطت بآخر حكامها، آخر بايات قسنطينة في العهد العثماني قبل سقوطها في يد الفرنسيين عام 1838، إنه “أحمد باي”، والذي تحتفظ ذاكرة المدينة بذكراه، إنها قصة حب بين المدينة وبينه، قصة خلدت في وسط المدينة بتحفة معمارية جميلة، تعتبر مزارًا هامًا لقاصدي قسنطينة، إنه قصر أحمد باي.
وقد انتهى بناء القصر عام 1835، تحفة شاهدة عن نمط العيش إبان العهد العثماني، استقر فيه الباي أحمد سنتين قبل أن يسقط القصر والمدينة كلها وتصبح تحت حكم الفرنسيين. يتميز القصر بفنائه الداخلي الواسع، وشرفاته المطلة على حدائق تزين الفضاء الداخلي للقصر، وأبوابه ونوافذه التي يغلب عليها اللون الأخضر والأحمر والأصفر. زيارة قصر أحمد باي رحلة في الزمن الجميل لمدينة الجسور، وتحديدًا في إحدى أزهى مراحلها، واكتشاف لتاريخ يضاف إلى الفسيفساء الجميلة لهذه المدينة، تتزين أروقة القصر بأعمدة من الرخام، وتتزين أرضيته بالبلاط الفاخر، وتتباهى جدرانه بلوحات فنية، يقال إنها تؤرخ لما قام به أحمد باي من رحلات إلى كثير من الأقطار. لم يحافظ القصر على شكله الأصلي كاملًا فقد أدخلت عليه تغييرات معمارية أثناء الفترة الفرنسية، أصبح القصر اليوم متحفًا مفتوحًا للزيارة، يقصده الكثيرون كي يروا عن كثب قصة الحب الجميلة بين مدينة الصخر وحاكمها أحمد باي.
اشتهرت قسنطينة بمدينة الجسور، فالوافد إليها لأول مرة، يرى الكم الهائل من الجسور التي تخترقها، وتقاطعاتها التي تجعل منها لوحة فنية جميلة
اقرأ/ي أيضًا: عنابة.. هدية التاريخ للجغرافيا
قسنطينة أيضًا هي مدينة اللا مألوف، مدينة القصص العجيبة، حاضرة الروايات التي لا تموت، مدينة الولي الصالح سيدي راشد الذي ينام ضريحه فوق صخرة بمحاذاة وادي الرمال. ويحمل الموروث القسنطيني عديد الحكايا عنه، من بينها أنه تحول إلى طائر برداء أبيض يحوم حول المدينة ليلًا، وذلك بعد مقتله من طرف أحد بايات المدينة، وبعد نهاية حكم ذلك الباي، تحول منزل سيدي راشد إلى ضريح ومزار لسكان المدينة، وصار معلمًا تاريخيًا شاهدًا على أحد حكايات قسنطينة التي لا نهاية لها.
اشتهرت المدينة بمدينة الجسور، فالوافد إلى المدينة لأول مرة، يرى الكم الهائل من الجسور التي تخترق المدينة، وتقاطعاتها التي تجعل منها لوحة فنية جميلة. عدد تلك الجسور سبعة، بنيت في فترات مختلفة، أشهرها جسر سيدي مسيد، الذي يجعل المدينة تظهر وكأنها روح انقسمت إلى صخرين، جسدًا واحدًا انشطر إلى دفتين. منظر المدينة من الجسر لا مثيل له في مدينة أخرى، تتوزع الجسور على جسد المدينة ولكل جسر خصوصيته فمنها الحجري ومنها الإسمنتي، منها المخصص للمشاة ومنها المفتوح للسيارات، يتناقلك جسر ملاح وجسر سيدي راشد، وجسر باب القنطرة، وجسر مجازن الغنم، جسر الشيطان وجسر الشلالات، وأضيف إليها مؤخرًا جسر صالح باي العملاق، الذي يضاف للتحف المعمارية التي تزين المدينة.
بعد جولة في المدينة القديمة، وزيارة لحي اليهود القديم، وبعد أن غنمنا شربة ماء من “عين سيدي جليس”، نظرت لصديقي وقلت له: “من يعرف قسنطينة حقًا، يدرك أن الجسور أتفه ما فيها”، إن الكلام عن قسنطينة وما تخفيه من قصص قد يستلزم الكثير من الوقت وجرعات هائلة من الإبداع، إنها مدينة مبهرة ، تخفي حكايات بين تفاصيلها، شيء ما في يومياتها يجعلها مختلفة عن سائر مدن الجزائر. غادرت قسنطينة ومعي كميات من حلوى “الجوزية” التي تفخر بها عائلات المدينة، وأنا أدندن أغنية المالوف الخالدة “قسنطينة هي غرامي”.