تعود بنا المسرحية إلى عائلة ياسمين في العراق، الأب، الأم، الأخ نبيل، والأخت الكبرى هدى. بين المشهد والآخر من المسرحية، نسمع في الخلفية الأخبار التي تروي الحدث السياسي في العراق عبر الراديو، تمر الأحداث السياسية بينما كل شخصية تروي ذاكرة عن طفولتها، فالأخت الكبرى (هدى، أداء ياسمين نديفي) ماتزال تذكر كيف دخل المسلحون إلى منزلهم، واقتادوا أبيها ليغيب عنهم ثلاث سنوات، الصرخة التي ماتزال عالقة في ذاكرة هدى من طفولتها هي صرخة النداء للخاطفين الذين احتجزوا والدها.
صعوبات التعبير
“دوماً ما ينضج الأولاد وحدهم”
إذاً لا تحضر الذاكرة دوماً بصرخات مأساوية عند الشخصيات، بل الذاكرة أيضاً تحمل الحديقة الخضراء داخل المنزل في بغداد، الألعاب بين الأخوة، وذكريات الأب عن الصيد في مياه نهر الفرات عند شروق أشعة الشمس.
مع الزمن يتزايد الإنقسام في ذات ياسمين، بل يتحول إلى صراع بين ذاتين. في النص المنشور عن المسرحية، عبارة مهمة مكتوبة في الإفتتاحية: “كامل أحداث المسرحية تجري في مساحة الوعي داخل ذهن ياسمين”، ذلك يتجلى بوضوح في الصراع بين (ياسمين 1 وياسمين2)، الشخصيتان اللتان خلقتهما الكاتبة في النص، والمخرجة على المسرح. لكن كيف يتجلى صراع ذات مع نفسها مسرحياً؟ وكيف يمكن رسم حدوده وأحداثه سردياً؟ يتجلى الصراع بينهما بدايةً في اللغة، هناك مشهد تلعبان فيه معاً، لكن كل منهما تتحدث لغة مختلفة عن الأخرى، العربية والفرنسية. الصراع الثاني يظهر عند تجربة العلاقة العاطفية والحب في المرحلة الثانوية عند التقرب من شاب فرنسي هو (أليكس)، فـ (ياسمين 1) قلقة من هذا التقارب، لا تشعر نفسها مستعدة للتواصل مع الآخرين في هذا المجتمع، بينما (ياسمين 2) تحاول تجاوزها والتقرب من (أليكس) عاطفياً وجسدياً، تقول (ياسمين 2): “لا يمكنني البقاء محاصرة في ذاكرة العراق”، وعند التعرف إلى أهل (أليكس) يجري حديث مرآتي بينهما، (ياسمين 2) تقول لأولى: “أنت تشكلين عائقاً بالنسبة لي، إنك حاضرة على الدوام، وتزعجين كل من حولك. ألا تلاحظين الصمت الذي يحل حالما تنطقين بإسم بغداد. أكره هذا الإسم هذه الكلمة”، لكن (أليكس، أداء ديفيد شوس) يتعلق بياسمين ذات الماضي العراقي، وليس بياسمين التي تحاول تجاوز ماضيها، لذلك يكون مآل هذه العلاقة العاطفية النهاية.
الثقافة نمط محدود وصارم
في أحد الحوارات بين ياسمين وأخيها، يسخر نبيل من محاولاتها التظاهر بأنها فرنسية: “مهما جهدت، حتى لو لبست مثلهم، واكتسبت طريقة تفكيرهم، هذا لن يغير شيئاً، لن تكوني فرنسية في نظرهم. هناك نقص في فرنسيتك”، “فرنسيتك”، تعني أن هناك معايير وصفات محددة لكي يكون الشخص فرنسياً، وكل من لا يمتلك هذه العلامات والإشارات فلا يمكنه الاندماج في الثقافة، أن تكون فرنسياً أي أن تحقق نمطاً مقولباً، حسبما يعبر الأخ لأخته.
من خلال نص مكتوب برصانة، وخيارات إخراجية لماحة ومتعددة المستويات، تنجح مسرحية “مكان” في سرد حياة طفلة تهرب من حرب العراق إلى فرنسا، تتابعها حتى سنواتها الدراسية، وتطلعنا على عوالمها العائلية والداخلية، وذلك لتتطرق لموضوعات الإنتماء، الإندماج، الذاكرة والمستقبل، وتذكرنا برؤية إدوارد سعيد عن المهاجر أو المنتمي إلى مكانين، فبرأيه صاحب هذه التجربة يفقد القدرة على الشعور بالانتماء أو بالاكتفاء بأيٍ منهما، إنه يصبح شخصاً مركباً من ثقافة هجينة، مزدوجة، ليس لها مكان جغرافي، وربما من هنا يأتي عنوان العرض: “مكان”.