فلسفة الصورة

في مسرحية هنريك إبسن (الورقة الأخيرة) كانت حياة الحبيبة ترتبط بشكل من الأشكال بأوراق الشجرة التي تقف خلف نافذة غرفتها وبما أن العاصفة قد هبت وبدأت تعصف بالشجرة فتوالى سقوط أوراقها إلى أن كادت أن تنتهي وكان لزاما على البطل أن يكافح من أجل ألا يدخل اليأس إلى قلب المحبوبة لقد كان في معركة مع الموت (العاصفة موت الحبيبة) وكافح من أجل أن يحصل على الألوان والأدوات التي يستطيع بها رسم ورقة على الشجرة ومن ثم كافح من أجل أن يرسمها إلى أن فعل ذلك….
ما يفعله الفنان الفوتوغرافي أحيانا يشبه ما قام به البطل والصورة الفوتوغرافية قد تبدو أحيانا مثل تلك اللوحة (الورقة الأخيرة) إذ إنها انتصار للحياة ضد قوى الموت قد يقال إن الصورة (تقتل اللحظة أو الحركة أو الحياة) ولا يمكن أن تكون بديلا عنها أو أن تكون هي نفسها تماما كاللوحة الأخيرة لكن كلاهما تحد واضح للموت مغالبة مكابرة مقاومة مكابدة عناد فإذا لم يستطع أي منهما أن يكون هو الحياة نفسها فعلى الأقل قد كان تجسيدا أو ذكرى أو تخليدا لها لفكرة الحياة نفسها…
أظن أن نشوة التقاط صورة جميلة أو مدهشة بالنسبة للفنان لا تقل عن نشوة كتابة قصيدة بالنسبة للشاعر وعوضا عن ذلك فإن ماهية التصوير الفوتوغرافي تقترب من طبيعة شاعرية قصيدة النثر فإذا كان له علاقة بشكل عام مع الأدب كون كل منهما يعد فنا إبداعيا فإن له علاقته الخاصة بالشعر التي تتجلى من خلال مفهوم (التصوير/الشعري) هذا المفهوم الذي قد يعد جوهر الشعر بدرجة أساسية وإن كانت هذه العلاقة محكومة بما شهده هذا المفهوم من اختلاف وتباين وتغير من عصر إلى عصر ومن ثقافة إلى أخرى كذلك من جنس أدبي إلى آخر إلا أن الشعرية بمفهومها الحداثي تكاد تقترب من طبيعة أو ماهية (فن التصوير الفوتوغرافي)… لقد كانت الشعرية قديما تعتمد على الخيال (من خلال علاقات بين مفردات لغوية لا علاقة بينها في الواقع) ومن هنا كان للخيال المحض دوره في التصوير وفي الشعرية (ولذلك كان يعاب على بعض التصوير الشعري طابع الحسية فيه التي تقربه من التصوير الفوتوغرافي) أما الآن وفي ظل ظهور قصيدة النثر فإن الشعر لم يعد يبحث عن (إضفاء الشاعرية على الكون من خارجه) من خلال الصورة الشعرية الخيالية أو الذهنية لأن الكون مليء بالشاعرية وما علينا سوى اكتشافها وهذا تماما ما يفعله التصوير الفوتوغرافي حين يكتشف الشاعرية في الكون ويقبض على الأشياء متلبسة بالشعر… ويسلمها لنا.
قد يقال أن الفن الفوتوغرافي غير إبداعي بسبب ما قد يظن أنه يفتقر لعملية الخلق (كالشعر والموسيقى والرسم) لكن الصورة في الحقيقة لن تكون شيئا أو نادرا ما تكون شيئا ذا قيمة (سوى التوثيق) إلا إذا كانت مزيجا من أحاسيس الفنان وحالة الأشياء إن إنتاج عمل إبداعي صورة فوتوغرافية يخضع لمؤثرات عدة ليست داخل الفنان فقط ولا خارج الذات فقط إنها أشبه بمزيج من هذا وذاك حيث تتداخل العوامل النفسية الفكرية الثقافية الآنية وطبيعة شخصية الفنان وثقافته ومخيلته تتدخل جميعا في إدراكه للأشياء ولعل الفن الفوتوغرافي يقوم أساسا على عين حساسة جدا ومرهفة وتمتلك من الخيال ما يكفي لتجلي المشهد واستكناهه قبل أن يتم التقاط الصورة ومن ثم تأتي الخبرة والممارسة والدقة في الالتقاط والأبعاد والزوايا ليكون الالتقاط بمثابة (قبض على اللحظة) أو إيقاف للأشياء في حالة معينة وفي هيئة معينة والصورة في الفن الفوتوغرافي: ليست عبثية بكل تأكيد بل تحمل مغزى ما فهي إلى جانب الجمال الذي تحمله يمكن أن تحمل شحنة من الدلالات والمعاني التي يعبر بها الفنان من خلال الصورة/المشهد/حالة الأشياء…

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.