منذ رحيل ابنها الشاب (أيمن، 22 سنة) في أحد مستشفيات باريس قبل أربع سنوات، دخلت الكاتبة المغربية ربيعة ريحان في حالة من الحزن الطويل. فقد اختارت أن تعيش بعيداً عن الحياة الثقافية، وأن تتخلى عن كل مسؤولية لها في عالم الكتابة، وأن لا تحضر النشاطات والمناسبات العامة إلا لماماً. إضافة إلى أنها لم تصدر عملاً جديداً، بل لم تنشر في الصحافة العربية أو في مواقع التواصل أي نصٍ أدبي جديد. انعزلت صاحبة “طريق الغرام” عن الجميع، وطالت عزلتها.
من يسأل عن ربيعة ريحان قد لا يجدها، كما لو أنها فقدت القدرة على النظر في عيون محبيها، تأثراً بهذا الرحيل المفجع لشاب رعته بحنان الأم وبمعرفة الأستاذة والناشطة الثقافية وبرقّة الكاتبة. يصعب أحياناً أن يُفسر العلم والعقل تلك الكتلة الشعورية التي تجمع الأم بابنها، فثمة كمٌّ هائلٌ من الأحاسيس المحفوفة بالأسرار والألغاز، والمبَطَّنة بطاقة هائلة ومكثَّفةٍ، قد تفتكُ بأحدهما حين يرحلُ الآخر.
كانت ربيعة ريحان، قبل رحيل ابنها، كثيرةَ الحضورِ في الحياة الثقافية المغربية، سواء ككاتبةِ قصة ورواية، أو كناشطة تعمل بهمة ودأب من أجل عقد لقاء أو الترتيب لمهرجان، أو خلقِ تظاهرة جديدة. ترأست المنتدى المغربي للثقافة والفنون، وترأست لسنوات فرع اتحاد كتاب المغرب في الرباط، وكانت عضواً في المكتب التنفيذي للاتحاد، وعضواً مؤسساً للملتقى العربي للمرأة والكتابة، إضافة إلى
عضويتها في هيئة تحرير جريدة “8 مارس”. كما أنها شاركت في ملتقيات ثقافية عدة في المغرب والعالم العربي وأوروبا.
في مجموعتها القصصية الأولى “ظلال وخلجان” كتب الروائي الراحل حنا مينة مقدمة جاء فيها: “لقد ولدت مع هذه المجموعة قاصّة رائعة في المغرب العربي كله، ومعها سيكون للقصة العربية القصيرة شأنٌ آخر مع قصص المرأة في الوطن العربي بأسره. هذا ليس استشفافاً، إنه اعتراف موضوعي”.
وتقول الكاتبة في أحد حواراتها عن هذه التجربة: “تقديم حنا مينة مجموعتي الأولى كان دفعة إبداعية حقيقية، منحتني الكثير من الثقة، ليس بالنفس فقط، ولكن في نصوصي المتعثرة الأولى، وفي ارتباكاتي وأنا على بداية طريق الكتابة. هذا التقديم فيه من النبل والصدق والدعم المعنوي ما يجعلني أعتزّ بهذا السخاء من مبدع كبير بحجم حنا مينه، فقد قدّمني وهو على ثقة من أنه يراهن على كاتبة بعيدة من المغرب العربي، ويقول للقارئ إن هذه القاصة سيكون لها شأن كبير مع القصة”.
ومنذ أن أثنى عليها حنا مينة، وهي تكتب القصة مخلصة بشكل لافت لهذا الجنس الأدبي. فقد أصدرت سبع مجاميع قصصية، هي على التوالي: “ظلال وخلجان”، “مشارف التيـه”، “شرخ الكـلام”، “مطر المساء”، “بعض من جنون”، “أجنحة للحكي”، “كلام ناقص”. وكانت “طريق الغرام” التي صدرت سنة 2013 عن دار توبقال في المغرب روايتها الوحيدة حتى الآن.
تتعدّد مداخل قراءة نصوص ربيعة ريحان، غير أن العاملَيْن النفسي والاجتماعي يشكّلان أبرز المفاتيح لقراءة أو مقاربة تجربة القاصة. فهي تركزّ في معظم أعمالها
على ما يعتمل في ذات الشخصية المحورية أو “بطل النص”/ المرأة غالباً، وتأثرها بالتحولات السوسيولوجية. والذي يعرف ربيعة ريحان عن قرب يدرك أن الكثير منها يتسرّب إلى شخوصها. إن شخصيتها تتماهى مع الشخصيات التي تكتب عنها، أو تكتب بها. لا يتعلق الأمرُ هنا بسيرة ذاتية موزّعة على النصوص، بل بتعاطف ضمنيّ مع اللواتي تكتب عنهنّ. فهي تعمل، بشكل أو آخر، على أن تجعل أفكارها واعتقاداتها وتصوّرها للحياة منطوقةً بألسنِ نساء أخريات يشبهنها، أو يتقاطعنَ مع شيء منها.
ثمة مدخل آخر لقراءة أعمال الكاتبة، هو لغتها، هو تلك الرغبة الدائمة في رفع الجملة السردية إلى مصافّ الشعر. إنها ومنذ “ظلال وخلجان” تراهن على تركيب المشهد بصور فنية مكثفة، تختصر المسافة وتُدني القارئ من نفسية الشخصية، الشخصية التي ترزح دائماً تحت عناءٍ ما.
قبل فترة قصيرة عقدت جامعة محمد الخامس بالرباط لقاءً مع ربيعة ريحان، وقبل أيام قليلة ظهرت الكاتبة في الدورة السابعة من ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي، ويبدو هذا الحضور إعلاناً عن خروجها من العزلة القاسية والطويلة التي فرضتها لأربع سنوات على نفسها.
في أحد حواراتها صرّحت بأن الجرأة والشجاعة ضروريتان لكلّ عمل أدبي وفنيّ، والكاتب والقارئ على السواء في حاجة إلى المزيد منهما. ويبدو أن ربيعة ريحان مطالبة اليوم، هي الأخرى، بالكثير من الجرأة والشجاعة، كي تخرج من ظلام الحزن إلى ضوء الحياة حيث كلماتُها ومحبّوها وقراؤها وأصدقاؤها يجلسون في قاعة الانتظار.