منذ أيام قليلة، وتزامنا مع مأساة العاملات اللاتي لقين حتفهن في حادث سير، وكنّ في الصندوق الخلفي لشاحنة صغيرة في طريقها إلى حقول كان يفترض أن يعملن فيها بمحافظة سيدي بوزيد التونسية، كتب الناقد السينمائي التونسي عبدالكريم قابوس، المعروف بتوثيقه للسينما العربية على مدونته لكي تفهم عمل النساء في الزراعة -أي عاملات التراحيل- شاهد فيلم “الحرام”، رائعة هنري بركات عن قصة يوسف إدريس.
مازال فيلم “الحرام” لمخرجه هنري بركات، ومنذ أول عرض له في سينما “ميامي” بالقاهرة في العام 1965، واحدا من أهم ما أُنتج في السينما المصرية والعربية على الإطلاق، بدليل أنه رُشح للسعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي عام 1965 أي فور صدوره، كما تم تصنيفه في المركز الخامس ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، وذلك بشهادة نقاد عرب وأجانب.
عوامل كثيرة ساهمت في إنجاح هذا الفيلم برأي النقاد والمتخصصين، رغم عدم جماهيريته الواسعة عند نزوله إلى صالات العرض، وهي أن صنّاع هذه الرائعة السينمائية، كلهم من ذوي المواهب العالية في الكتابة (يوسف السباعي)، صياغة السيناريو (سعدالدين وهبة)، التمثيل (فاتن حمامة)، التصوير (ضياء المهدي) والإخراج (هنري بركات).
يأتي إلى جانب هذه العوامل المتناغمة في صناعة “الحرام” عنصر البيئة الريفية التي اختارها المخرج لشريطه، وأضفت على القصة بعدا واقعيا أنقذها من السقوط في الميلودرامية، وأكسبها ثراء دراميا معرفيا يثير الجدل حول صراع القيم والمفاهيم.
تحكي قصة الفيلم معاناة عمال التراحيل مع الفقر والمرض في بداية خمسينات القرن الماضي من خلال زوج يعاني مرض البلهارسيا وكذلك العجز الجنسي كما يوحي به الفيلم. يشتاق هذا الرجل البائس (عبدالله غيث) إلى جذر البطاطا، وعندما تحاول زوجته الجميلة (فاتن حمامة)، العاملة في الحقل، اقتلاع جذر البطاطا، يغتصبها أحد الأشخاص من الوسيمين ومفتولي العضلات، فتحمل وتخفي حملها، وعندما تلد تحبس أنفاس المولود خوفًا من الفضيحة، لكنها تصاب بحمى النفاس وينفضح أمرها.
الفيلم لا يطرح موضوع الخطيئة في حد ذاتها كموضوع أخلاقي، وإنما يناقش فكرة الإحساس بالخطيئة ضمن صراع نفسي تعيشه الأنثى إزاء مجتمع ريفي قاسي الحكم إلى درجة أن جميع شخوص الفيلم يقرّون بهول الخطيئة وثقلها بمن فيهم الراوي الذي يمهد لأحداث الشريط بصوت جهوري، لكنه متهدج.
فيلم “الحرام” من بطولة فاتن حمامة وعبدالله غيث وزكي رستم وحسن البارودي، وصفته سيدة السينما العربية بأنه أحب الأفلام إليها وأنها عايشت الفلاحين كثيرًا قبل تصويره، مما أكسب الأداء التمثيلي صدقا مدهشا وواقعية استثنائية.
يبدأ فيلم “الحرام” الذي أنجزه “شيخ مخرجي مصر” هنري بركات (1914 ـ 1997) بمشاهد تسبح في كاميرا الأبيض والأسود لقرية مصرية من دلتا النيل، لكنها تبدو -ولفرط واقعيتها- ضربا من الديكور الفني أو هي من صنع مدير التصوير، الفنان ضياء المهدي.
تكوينات بصرية مدهشة، تحسبها من فن الغرافيك أو صورا من تلافيف الدماغ البشري لما احتوته من بيوت ريفية لا تفصلها سوى مسارب ضيقة وسواقي كالشرايين تبعث الحياة في مشاهد يومية لقرية مصرية، تشعر عند منتصف الفيلم أنك واحد من سكانها.
صوت الراوي الذي يرافق هذه المشاهد عند بدايات الفيلم، ورغم رخامة حنجرة مؤديه (حسين رياض)، تعمّد المخرج أن يجعله فاقدا لحياد السرد، ومجرد شخصية تنتمي إلى قسوة منطق هذه القرية في الحكم على الأحداث، بل وكأنها صوت قاض في منتهى الصرامة والالتزام بنظرة السائد من الأعراف والتقاليد.
ومثل الأعمال المنتمية إلى التيار الواقعي، لا شيء متميز أو استثنائي في توصيف القرية التي يقع فيها الحدث حسب الراوي “نقطة سوداء ضائعة بين مساحات عريضة من أرض خضراء. قرية في وسط الدلتا حيث تضيق الحياة الضيقة بالأفواه الكثيرة، وهناك في الشمال، وفي ذات يوم من عام 1950 بدأت قصتنا”.
قصة الشريط تعجّ بالمفارقات، في نوع من القصدية الفنية التي أرادها المخرج، وعلى مستويات متعددة داخل هذه السردية الحكائية والبصرية، فشخصية “عزيزة” (فاتن حمامة) واحدة من عمال التراحيل، تمتلك نوعا من عزة النفس ولكن في الاتجاه الخاطئ، ذلك أن هذه المرأة الرقيقة وُجدت في بيئة خشنة، تدين وتجرّم ما وقع لها في حالة الاغتصاب الذي تعرضت له من طرف “محمد ابن قمرين”، الفتى القوي الوسيم، وهو يضرب الأرض بفأسه لاستخراج ثمر البطاطا التي اشتهاها زوجها العليل.
يقع الحمل، تنجح عزيزة في إخفائه، لكن صراخ الوليد يفضحها عند الوضع فتخنق الرضيع وتقع في سلسلة من الخطايا المتناسلة، ولا سبيل إلى معالجة غير جلد الذات. وتبدأ الفجيعة التي تصنع المجموعة أسبابها، ويتحمل الفرد مسؤوليتها ضمن مساءلة أخلاقية لم يحسمها الشرق الحائر إلى هذه اللحظة.
عنوان الفيلم “الحرام” واضح لا لبس فيه، ويبدو في ظاهره غير حمّال أوجه ولا يسمح بالقراءات المتعددة أو حتى مجرد التشكيك. كأنه يذكّر بالقاعدة الفقهية “الحلال بيّن والحرام بيّن”، لكن هذه “الصراحة الزائدة” قد تخفي خلفها صفعة بليغة تقول في سرّها: انظروا.. هذا هو مفهوم الحرام، السيف المسلّط على الفرد والمجتمع، ويقبل بسطوته جميع الناس دون نقاش.
ما تقدّم كان هو الباب الذي على المتلقي أن يدخل من خلاله إلى قصة الفيلم، انطلاقا من القاعدة الصارمة التي فرضها هنري بركات على جمهور فيلمه في نوع من “المازوشية الفنية”.
“اعمل إيه يا ربي.. الشيطان كتّفني”، كانت هذه هي العبارة اللغز أو الجملة المفتاح في فيلم “الحرام”، ونطقت بها عزيزة (فاتن حمامة)، حين حملت سفاحا من مزارع البطاطا، المادة الغذائية التي اشتهاها زوجها طريح الفراش في شهوته الأخيرة.
تحملت عزيزة وزر الحادثة نحو أقصاها فلم تبرر خيبة مسعاها وحظها العاثر، ضعف أنوثتها المهدورة أمام زوج عاجز، ولا استسلام الغريزة إزاء صهيل نداء الشهوة ومقاومة فتى ينضح فحولة ووسامة.. ولا حتى قتلها لمولودها خشية الفضيحة، إلا أمام الله، والقول له بأن “الشيطان قد كتفها وشد وثاقها”.
كأن هذا “الشيطان” ليس مسؤولا عن جملة تفاصيل الواقع البائس الذي تعيشه عزيزة، واكتفى بشلّ حركتها لحظة استسلامها للفعل الجنسي داخل الحقل، وكأن المجتمع لا يأبه حتى لفعل كتم صراخ المولود بيدي أمه خشية الفضيحة، وإنما لا يهمه ولا يحرك غضبه إلا ما فعلته عزيزة.. حتى وإن كانت مفعولا به، ويرى في ذلك عين الخطيئة. كل الخطيئة، متجاهلا الأسباب والتبعات.
فيلم “الحرام” يحكي قصة مجتمع يصم آذانه عن كل الخطايا، ويلخصها في جسد المرأة كغلطة لا تغتفر، وما عدا ذلك من ظلم واستغلال وقسوة فمسألة فيها وجهة نظر، لذلك عدّ النقاد والدارسون فيلم “الحرام” أول بواكير السينما النسائية وأقواها طرحا في العالم العربي.
موضوع لوم ضحية الاغتصاب لنفسها هو الآن من مواضيع الساعة في العالم، ومنظمات حقوق المرأة تنادي بمناقشته والتصدي له، كما أن موضوع الإجهاض أيضا وإثارته للجدل دينياً واجتماعيا بصفة عامة، يعدّ من المواضيع الشائكة حتى وقتنا هذا، فما بالك بالستينات من القرن الماضي؟ وهو ما يعطي الدليل على أن هنري بركات، مخرج شجاع، لم يُخف يوما تحيّزه للمرأة، وكذلك بطلته فاتن حمامة في رحلتها الفنية، والتي أخذت على عاتقها قضايا المرأة في أكثر من فيلم، لعل أشهرها “الباب المفتوح” وهو من إخراج هنري بركات أيضا.
فيلم “الحرام” استحق أن يوصف بأنه من أفضل ما قدّمت السينما المصرية على مدار تاريخها، ليس فقط لتفرّده وتميّزه بالحديث عن عالم شبه مجهول لكثير من مشاهدي السينما، ولكن في تمثيله للخطيئة والتباسها على الضحية.
ثمة مسألة في فيلم “الحرام” لم يحسن نقاد السينما تلقيها، ووضعوها في خانة السلبيات التي أضعفت الفيلم وأفقدته حسه الفني التجريبي، وهي إقحام صوت الراوي الذي يتحدث بانحياز إلى نظرة المجتمع، واعتبار ما أقدمت عليه عزيزة خطيئة تعكر صفو مزاج تلك القرية الهادئة الوديعة.
لقد سيّج بركات رائعته الفنية بذلك الصوت الذي يعود بنا إلى حظيرة المجتمع، ويوحي بهول الخطيئة التي أقدمت عليها عزيزة في ما يشبه تلك الجوقة الموجودة في مسرح سوفوكليس وباقي تراجيديات الإغريق للدلالة على أن اللعنة مستمرة باستمرار الخطيئة، وخروج الإنسان عما خططته الأقدار له.
وكأن هنري بركات المتشبّع بثقافة الضفة الأخرى من المتوسط قد قارب بين فيلمه وأسطورة “ميديا” لأسخيلوس في تحوّل المرأة من كائن رقيق إلى آخر شديد القسوة حين يقدم على قتل أبنائه، ولكن الفرق هنا هو أن “ميديا” تقتل طفليها بفعل الانتقام، أما عزيزة فتخنق رضيعها بدافع الخوف والهروب من الفضيحة.
ومهما يكن من أمر، فإن تموّجات صوت الراوي في فيلم “الحرام” عند البداية والنهاية، يذكّرنا بسطوة الواقع الذي تختبئ الحكاية بين دفتيه في نوع من “التغريب البريختي” الذي يجعل من الحكاية ذريعة لقول ما يُخشى قوله ضمن مهمة المثقف في نقد الواقع الذي يعيش فيه، خصوصا أن العمل قد أنجز في ذروة المد الثوري في ستينات القرن الماضي.
ويقول صوت الراوي في نهاية الفيلم، حين ينقل جثمان عزيزة إلى قريتها التي جاءت منها تحت جنح الظلام “وعادت عزيزة إلى قريتها جثة هامدة، ولكن الناس ظلوا يتساءلون: أهي خاطئة غسلت بالموت خطيئتها، أم شهيدة دفعتها إلى الخطيئة،
خطيئة أكبر منها. وعندما تحرر الترحيلة من وقع السياط، عادت الشجرة التي وقعت تحتها الخطيئة مزارا للنساء الباحثات عن الولد في الحلال، لا في الحرام”.
يرى النقاد أن الحرام، وفقا للراوي الذي يمثّل نظرة المجتمع، لم يكن الفقر وشظف العيش، ولم يكن المرض دون وجود المال للعلاج، لم يكن طبقية المجتمع البغيضة التي تجعل حتى من الفقر مراتب، فهناك الفقير المعدم كعزيزة الذي يضطر للعمل في الترحيلة والانتقال من بلاده البعيدة للحصول على القوت، وهناك الفقير الأيسر حالا الذي يبقى في بلدته وسط عائلته. والحرام والخطيئة
من منظور الراوي المتمثل لصوت الضمير الجمعي، لم يكونا خنق المولود، أو اضطرار عزيزة لإخراس صوت بكائه خوفا من المجتمع. الحرام كان عزيزة نفسها التي تعادل كلمة “الخطيئة”، حتى أن أهالي القرية يتوجسون من أمرها ويخشون احتمال انكشاف سبب موتها، وهي ميتة تنقلها عربة تحت جنح الظلام في طريقها إلى مسقط رأسها.
فيلم “الحرام” احتفى به النقاد العرب والأجانب، على أكثر من صعيد: سواء كان ذلك في تصنيفه ضمن مدرسة الواقعية السينمائية كواحد من أهم ممثليها وروّادها في العالم العربي أو تقديمه للنموذج الناجح الذي يرقى بالرواية حين يحوّلها إلى شريط سينمائي، يعلو عليها ويضيف إليها في واحدة من أنجح التجارب الفنية.
كل هذا بالإضافة إلى اعتبار الفيلم مدرسة في حدّ ذاتها من حيث تناغم فنون الأداء والتصوير وبقية عناصر العملية الفنية.
الفيلم يضم باقة من ألمع ممثلي السينما المصرية ويعتبر عملا خالدا لسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة. تلقائية التمثيل وانخراطها مع سكان المنطقة اللي تم فيها التصوير جعلها تتقن اللهجة، وحتى ملابسها وشعرها ومكياجها البسيط، بل وحتى طريقة مشيتها.
أتقن زكي رستم، دور الناظر المكلف بمتابعة الأرض، وبرز ذلك من خلال انحناءة ظهره، وتألق عبدالله غيث، بأدائه المؤثر.
وضع موسيقى الفيلم سليمان جميل، بحس تعبيري عميق، وليس بأداء تصويري سطحي كما هو سائد، وعزفتها فرقة الموسيقي الشعبية. وكان لاستخدام الناي والطبول في العزف، كبير الأثر في توصيل المشاهد للحالة العامة للفيلم معبّرة عن أدق المشاعر.
وكتب مؤرخ السينما العالمية جورج سادول عن فيلم “الحرام” في مجلة “الآداب” الفرنسية يقول، “بعد أن عُدت من مصر كتبت عن فيلم ‘الحرام’، لكني خشيت أن يكون إعجابي نتيجة تأثري بترحيب المصريين الشديد بي، ولما شاهدت الفيلم ثانيا في مهرجان تأكدت من صحة رأيى، وشاركني فيه نقاد كثيرون أنه أعظم فيلم مصري واقعي”.
وقال رضا الطيار في كتابه “الرواية العربية في السينما”، إن “الحرام من أفضل الأفلام المأخوذة عن روايات أدبية، فقد أفلح في الحفاظ على جوهر الرواية، وأيضا قدّم للسينما عملا سينمائيًا متكاملا بفضل كاتب السيناريو سعدالدين وهبة”.
فيلم “الحرام” لم يفقد بريقه بعد ما يزيد عن نصف قرن من إنجازه بل ظل منجما لا ينضب من الجماليات التي نكتشفها عند مشاهدته في كل مرة، وخاصة على مستوي الصورة والأداء التمثيلي، بالإضافة إلى طرحه الاجتماعي الذي مازال ينزف وجعا حول نساء الترحيلة العاملات في المجال الزراعي ومعاناتهن اليومية.