استيقظ المثقفون والأدباء العراقيون والعرب صبيحة الجمعة على خبر رحيل الشاعر والكاتب العراقي فوزي كريم، الذي يعتبر من أهم الأصوات الشعرية العربية منذ الستينات من القرن الماضي، ناحتا تجربة مختلفة في القصيدة العربية الحديثة.
توفي في لندن الجمعة 17 مايو الشاعر والناقد العراقي فوزي كريم عن عمر 74 عاما، وهو أحد أبرز شعراء جيل الستينات في العراق، فتح الباب واسعا أمام الحداثة الشعريّة، فضلا عن المعالجة النقدية للتراث والشعر الحديث. وقد شكّل رحيله خسارة كبيرة للثقافة العراقية والعربية.
وكان الراحل ينتظر صدور أعماله الشعرية عن منشورات المتوسط، وهو ثاني إصدار لها بعد أن صدرت في جزأين عام 2001، مضاف إليها مجموعاته الشعرية التي نشرت لاحقا. وقد كتب فوزي كريم للناشر والشاعر خالد الناصري رسالة قال فيها “تركت الأعمال الشعرية بين يدي فترة، طمعا بإعادات النظر، ولكني لم أجد ما أعيد النظر فيه. إنها جاهزة للنشر. لك أن تقرر الأجزاء التي ستخرج بها. ولك أن تقترح عليّ ما تراه مناسبا. إن عنوان ‘قصائد نصف قرن’ مناسب لرغبتي في الانسجام مع آخر مراحل الكهولة”.
ولد فوزي كريم في بغداد عام 1945، وأكمل دراسته الجامعية فيها، ثم هاجر إلى بيروت عام 1969، وعاد إلى بغداد عام 1972، ثم غادرها ثانية عام 1978 إلى لندن، موطن إقامته حتى رحيله.
أصدر كريم أكثر من 22 مجموعة شعرية، منها مختارات صدرت بالإنكليزية، والفرنسية، والسويدية، والإيطالية. وإلى جانب الشعر له أكثر من 18 كتابا في حقل النقد الشعري والموسيقي والقصة. وله معارض عدة كفنان تشكيلي.
منذ بواكير تجربته الشعرية كان فوزي كريم لا يجد مفارقة في اعتماد الموروث والحداثة مصدرين أساسيين لثقافته وقصيدته. الموروث العربي يمده بالإحساس باللغة والتاريخ والتواصل، والثقافة الحديثة نافذة يطل منها على اللامحدود.
وكان الإحساس بالمنفى عميقا لديه، لأنه عاش منذ مطلع شبابه في مجتمع يعتمد ممارسة شعائر مقدسة متضاربة، هي شعائر الإيمان العقائدي، بينما كان هو بمنأى عن هذا المصطرع. لكنه لم يكن بمنأى عن رائحة احتراقاته ونزيفه. وقد أشعره معترك الأفكار العمياء بالوحدة، والتطلع، الأمر الذي ميز قصائد مجموعته الأولى “حيث تبدأ الأشياء” عام 1968، التي نجد فيها ذلك التطلع المفعم بحزن تلك الوحدة شفيفا وغنائيا.
وعمق منفاه الاختياري الأول في بيروت تلك الوحدة، وذلك التطلع، فأعطاهما طبقة صوت محتجة، وغنائية مصوّتة، كما يُلاحظ في قصائد مجموعة “أرفع يدي احتجاجا”، التي صدرت عام 1973. وكانت السنوات التي قضاها في بغداد بعد عودته من بيروت على درجة عالية من التوتر، والإحباط، وانسداد المنافذ، فصارت قصائده، التي ضمتها مجموعته “جنون من حجر” 1977، أيضا، متوترة، محبطة، وباحثة عبثا عن إضاءة. التطلع فيها لم يعد في دم التجربة الشعرية ذاتها، في دم القصيدة، بل صار إشارة مباشرة مقصودة في آخرها.
في سنوات غربته الطويلة بلندن دخل فوزي كريم رحاب الإنكليزية أدبا وثقافة عامة. كما وقع على ضالته التي كانت مفقودة في حياته العربية السابقة، وهي الموسيقى، فبدأ يعوض عما افتقده بتأسيس مكتبته الشخصية من الموسيقى الكلاسيكية. وطوال ربع قرن لم ينقطع يوما عن الإصغاء، والقراءة، والكتابة في الشأن الموسيقي. وقد انتفعت قصيدته من هذا المصدر الموسيقي، الذي يعتبره الشاعر أسمى مصادر البناء في النص الشعري. ولأنه يمارس فن الرسم بذات الشغف، ولكن ليس بذات التواصل، فقد وضع كتابه “الفضائل الموسيقية” في أجزاء أربعة عن “الموسيقى والشعر”، و”الموسيقى والرسم”، و”الموسيقى والفلسفة” و”الموسيقى والتصوف”.
في مجال النقد أصدر فوزي كريم “من الغربة حتى وعي الغربة- إدمون صبري: دراسة ومختارات”، “ثياب الإمبراطور: الشعر ومرايا الحداثة الخادعة”، “العودة الى گاردينيا”، “يوميات نهاية الكابوس″، “تهافت الستينيين: أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي”.
كما أصدرت له منشورات المتوسط ثلاثة كتب نقديّة هي “شاعر المتاهة وشاعر الراية، الشعر وجذور الكراهية”، و”القلب المفكر، الشعر يغنّي، ولكنه يفكر أيضا”، إضافة إلى طبعة ثانية، مزيدة ومنقحة، من كتابه “ثياب الإمبراطور: الشعر ومرايا الحداثة الخادعة”. وتحمل هذه الكتب موقفا نقديا يتبلور في عدد من المحاور الإشكالية، تسعى إلى تحفيز الشاعر والقارئ على معاودة النظر، وعلى المحاججة، وعلى الاختلاف. ولفوزي كريم رواية واحدة بعنوان “من يخاف مدينة النحاس″، صدرت عن منشورات المتوسط أيضا. وهي رواية تشتمل على اعتناء بالسرد وثراء معرفي وثقافي.
قالوا عن فوزي كريم
علي جعفر العلاق: “يمكنني القول إن فوزي كريم واحد من الشعراء القلائل الذين عكفوا على مشروعهم الشعري بمثابرة دائمة. كان شعره، وسط صخب الستينات، ملاذا لذاته المرعوبة الشكاكة العزلاء. ومع أنه واحد من شعراء الستينات، إلا أنني لم أكن أراه واحدا منهم تماما. وحين اقترن اسمه بالبيان الشعري، الذي أصدرته مجموعة من شعراء ذلك الجيل، كان الأمر بالنسبة لي مثار استغراب واضح، لأن فوزي كريم لم يكن منتميا إلى عقيدة سياسية، ولم يكن صاحب ادعاءات كبيرة، كما أنـه كان بعيدا عن ركـوب الموجات المثيرة للجـدل. لقد كان شاعرا بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ولم يستمد قيمته من أي صفة أخرى غير الشعر”.
حسب الشيخ جعفر: “في بغداد كان يلوح غريبا، بلحيته الكثة القصيرة، وبحقيبته المثقلة بالكتب دائما، وبمعطفه وكأنه سائح، ولد وعاش سنواته العراقية، في بغداد، في منزل شعبي على الجانب الغربي من دجلة، قريبا جدا من النهر، وتحت ‘مراوح’ النخيل، لم يعلق بذاكرته غير غرين دجلة ‘البابلي’ الأحمر، ورائحة السمك، والدفلى، والسهرات الغائمة على الجانبين من شارع أبي نؤاس، المحاذي لدجلة أيضا. ولعله الشاعر العراقي الوحيد الذي نأى بنفسه عن واجهات السياسة وأوكارها السرية، لم أعرفه ملتزما أو متحيزا إلى أي اتجاه سياسي من شتى الاتجاهات التي لمّا يزل العراق مضطربا بها، ومضطربة به، وقد بدا هذا غريبا لي حين التقيته، للمرة الأولى في أخريات العقد الستيني، وبعد ما أدركت شيئا من أعماق شخصيته ذهب استغرابي، وقد وجدتني حيال شاعر لم يتأبط من العالم غير حزمة قصائد كالفلاح العائد من الحقل بكومة حشائش. في البداية كان ميالا إلى الزخرف اللفظي والضوء الأبيض، وسريعا ما فضّل الألوان العراقية الحارة”.
شاكر الأنباري: “فوزي كريم من نوادر الثقافة العراقية، شاعر متمكن من فنه، وناقد نافذ البصيرة، زاوج في ثقافته بين التراث والحداثة، الثقافة الغربية والعربية، ويمتلك ذائقة موسيقية عميقة، هو القادم من شواطئ دجلة. كان فوزي من الفئة القليلة بين المثقفين العرب من أنجز كتابا ممتعا، ومتخصصا في الآن ذاته، عن علاقة الشعر بالموسيقى، واللافت في شخصية فوزي جديته الصارمة في التعامل مع الأدب، ومع الرأي الآخر، وفوق كل ذلك ففوزي انسان بسيط، غير استعراضي، شفاف مثل نسمة. طوال معرفتي به، وقد امتدت أكثر من ربع قرن، لم أره يوما غاضبا. حين يحادثه المرء يلمس رهافة روحه، وبساطتها، مثلما يلمس أثر ثقافته الموسوعية في روحه، وأخلاقه، ومرحه الدائم. كان فوزي مستشرفا لحركة عصره، متفهما لما يدور في ميدان الأدب، والسياسة، والمجتمع، سواء في العراق أو المنطقة. توصل إلى قناعات صارمة حول رؤيته للثقافة العربية في الشعر والدين والسياسة. وهو متصوف لا يطلب من الحياة سوى كفاف العيش، وفسحة لممارسة طقوسه في القراءة، والكتابة، وسماع الموسيقى الكلاسيكية وكان مهووسا بها. في السنوات الأخيرة من حياته فضل فوزي العزلة عن الآخرين، وتكريس حياته للكتابة، وأدار ظهره للمهرجانات، والاحتفاءات، وأعراس التطبيل التي سادت في حياتنا الثقافية، في زمن راح يحتفي بكل ما هو سطحي ومبتذل، وساع إلى الشهرة والبهرجة، وكان يدرك أن الزمن لم يعد زمنه، لم يعد زمن الثقافة الجادة، المعرفية، الناقدة، الحاملة لرسالة الضوء في عتمة الحياة”.