بيروت- ليلة افتتاح معرض الفوتوغرافي المصري- اللبناني رولان صيداوي بصالة “أليس مغبغب” البيروتية والمعنون بـ”لبنان بلا روتوش” جرى توقيع كتاب قيّم يضمّ مجموعة كبيرة من أعمال “ساحر الضوء”، جميعها بالأسود والأبيض.
جاء هذا الكتاب تكريما للمصور- الفنان ونتيجة تعاون بين عائلة الراحل والأنتروبولوجية هدى قساطلي، التي قدّمت الكتاب بنص نابض يلقي الضوء على شغف المصور بالتقاط الصور وحبه الكبير للبنان، ويُساهم النص أيضا في فهم شامل للصور ولشخصية المصور الذي التقطها.
يُذكر أن صيداوي أتمّ دراسته في مدرسة الآباء اليسوعيين في القاهرة، ثم أكمل دراسته في الصيدلة بجامعة القديس يوسف في بيروت، وتخصص في الحقل نفسه في جامعة سترازبورغ، ولكن عمله اللاحق لدراسته كصيدليّ جاء على هامش هوايته ومهنته الحقيقية التي اختارها بكل جوارحه، وهي ممارسة التصوير الفوتوغرافي.
الناظر إلى صور رولان صيداوي الحاضرة في المعرض وفي الكتاب سيجد نفسه شيئا فشيئا ينزلق إلى ماء صوره الضحلة والشفافة، ليسبح من دون أدنى جهد إلى ضفاف أجواء “مُخدرة” أحدثتها الصور، التي يطغى عليها الهدوء وثيمة الزمن الصافي والمتحرر من كل المصائب المعاصرة. من أهم ما تعيد طرحه هذه الصور هي سلسلة من المقارنات ما بين ما تعنيه الصورة الفوتوغرافية واللوحة التشكيلية بشكل عام.
الصورة بطاقة عبور
بُعيد اكتشـاف تقنية التصـويـر الفوتوغرافي طرأ على الفن التشكيلي تحول ثوري، فلم يعد المُنتظر من هذا الفن أن يوثق المشاهد الطبيعية والحوادث التاريخية والشخصيات المؤثرة في مجتمعاتها بأقصى حد ممكن من الواقعية البصرية، فباتت قوة التعبير الشخصي، أكثر فأكثر، هي المعيار الأهمّ في تصنيف قيمة اللوحة الفنية.
صور رولان صيداوي تجمع المجد من أطرافه، فهي فنية لأنها توثق ما كان قبل زمن الدمار والتلوث والهجرات القسرية
بعد مرور فترة طويلة من الزمن أصبحت الصورة الفوتوغرافية/ الفنية بدورها عُرضة للتغيرات، فلأجل أن تحمل إمضاء مصورها كما تفعل اللوحة التشكيلية الفنية، عليها هي الأخرى أن تقدم شيئا آخر غير النقل الحرفي للواقع وتؤمن للناظرين إليها قراءات مغايرة تبعا لاختلافاتهم وخلفياتهم الفكرية والنفسية والاجتماعية، بل وأن تعبر عن وجهة نظر المصور، وإن بأسلوب مبطّن وتجسّد أسلوبه الفني الخاص في التقاط الصور وانتقائه لمشاهد دون أخرى.
أما إن لم تؤمّن هذه الصورة هذا الحد الأدنى من هذه الفرادة، فإنه يجري تصنيفها بالصورة الصحافية أو التوثيقية، التي على الرغم من أهميتها تُعتبر نوعا من الأرشفة البصرية أو التوضيحية للنص المرافق لها.
الآن، وفي منطقة الشرق الأوسط بالذات، يبدو أن الصورة الفوتوغرافية تعرضت من جديد لتحولات في المعنى، فباتت تلك التي توثق المكان وأهل المكان، مثل الصور التي التقطها رولان صيداوي، هي الأهم لأنها تجمع المجد من أطرافه. فهي فنيّة لأنها بالتحديد توثّق لما كان قبل زمن الدمار والتلوث والهجرات القسرية.
الصور الفوتوغرافية عن معلولا وعن تدمر وعن أسواق بيروت القديمة وعن مدينة غات الليبية وعن أماكن أخرى في العراق وفلسطين المحتلة، واللائحة لا تنتهي، لا يمكنك النظر إليها اليوم دون أن يرافقك شعور مصطبغ كليا بالحنين، كما تعرفه وتختبره أنت دون غيرك من المشاهدين.
إن الموضوعية الحاضرة في صور رولان صيداوي تتحول إلى غنائية/ إيحائية، فتتساوى على أثرها مئة لوحة تشكيلية عن المكان ذاته. لا يخفى على أحد أن أهمية الأعمال الفنية لرواد الفن التشكيلي اللبناني الذين رسموا القرى اللبنانية ومدن لبنان الساحلية من مصطفى فروخ، إلى عمر الأنسي، إلى رشيد وهبة وصولا إلى خليل صليبي، ولكن في ضوء الصور التي قدّمها لنا المصور، أصبحت تلك اللوحات صدى جماليا لحقيقة غير متخايلة، لم تعد في أكثرها منتمية إلى هذا العالم.
لبناني ما بعد الحرب
رولان صيداوي يلتقط صوره الفوتوغرافية بالأسود والأبيض باختياره الشخصي، فهو يريدها، كما قال، أن تبدو على حقيقتها
لا ينبغي على أحد أن يعزو سبب خراب أو شبه اختفاء هذه المشاهد التي خلدها المصور صيداوي إلى الحرب أو إلى عامل مرور الزمن فحسب، فإنسان ما بعد الحرب اللبنانية لم يقصر في ذلك البتة، إذ ساهم بشكل كبير بقصد وعن غير قصد في تشويه الخصوصية المشرقية لهذه المناطق، ولا يزال حتى الآن ينكبّ على ذلك بنهم غرائبي.
التقط رولان صيداوي صوره الفوتوغرافية بالأسود والأبيض باختياره الشخصي، إذ كانت تقنية الألوان موجودة في زمنه، أرادها، كما قال، أن تبدو “على حقيقتها”، قد يجد البعض في هذا التفسير غرابة ما، لأن اللون حاضر وبقوة في المشهد اللبناني، ربما أراد الفنان من ذلك أن يركز المشاهد على مضمون اللوحة: الوجود البشري وأشكال البيوت والجبال والأشجار وغيرها من عناصر التأليف الشكلي، غير أن تغييبه اللون في تلك الصور جعلها أكثر جدية لسبب من الأسباب.
لقد باتت صوره وكأنها مترفعة ومحفوظة بعيدا عن يد الإنسان التخريبية، إذ تشير بداية إلى ذاتها، أي إلى كونها صورا عن مشهد، عن شيخ، عن طفل يلعب على مفترق الطرقات الجبلية المتعرجة، ثمّ تشعرك بأنها مُخلدة، لقد نجت وستنجو من التخريب، في حين أن المشهد الملون الحقيقي تعرّض ولا يزال إلى شتى أنواع أعمال العنف البشري.
ليس من الممكن النظر إلى هذا النوع من الصور بتجرّد وموضوعية، وفي ذات الوقت لا يمكن النظر إليها على أنها نتاج تأليف شخصي شكله الفنان بتأن وبخلفية فكرية معينة، إنها صور تقول: أنا الحقيقة دون زيف، والمشهد الخام قبيل أفول الشمس الأخيرة.