وائل قاقيش
كما هي فرقة «الحجرة» في الموسيقى الغربية، تُعد فرقة «التخت» الشرقي أساسًا للموسيقى العربية وخاصة في أواخر القرن الـ 19 الى بدايات القرن الـ 20 في مصر وسوريا، حيث استوطنَ التخت في السرايا والقصور وبيوت الأغنياء والنُخبة في أول مراحله وقبل نزوله الشارع الشعبي، ونال مركزًا مرموقًا في بيوت كبار الشخصيات والأغنياء، وأصبح البعض منهم مميزين لدرجة أنهم أصبحوا معتمَدين رسميًّا في بعض الأماكن والبيوت المهمة في الدولة.
تعود كلمة «التخت» إلى أصول فارسية وتعني العرش، أو المجلس المرتفع في صدر صالة الجلوس كمكان يجلس عليه العازفون ليتمكن الحضور من رؤيتهم وسماعهم. وتؤدي فرق التخت الشرقي العزف والغناء في أماكن ومناسبات متعددة، فهي دائمة التألق في الأفراح والمناسبات العامة سواء كانت في القصور، أو المسارح أو الأماكن الشعبية العامة كالمقاهي والملاهي وغيرها. كانت خبرة التخت الفائقة بتقديم مجموعة كبيرة من الألحان والأغاني المتضمنة الليالي والأدوار والطقاطيق وغيرها من الأغاني الطربية أو الخفيفة الراقصة تسعد أفئدة المتواجدين في هذه الحفلات، ففرقة التخت تحرص دائمًا على تقديم ما هو طربي ومسترسل تهتز له رؤوس السمّيعة فرحًا وطربًا، إعجابًا وتقديرًا، وخاصة بسماع بعض القوالب الموسيقية مثل الدور أو القصيدة أو الموال او الطقطوقة.
يتكون التخت الشرقي غالبًا من موسيقيين ومغنين جميعهم من الرجال يرافقهم أحيانًا راقصة، وأحيانًا أخرى من نساء يطلق عليهن اسم «العوالم» أو «القانيات» في السابق. فبالإضافة للعازفين والمطرب الرئيسي، كان وجود الرديدة أو المذهبجية لا يقل أهمية عن بقية أفراد التخت، فأصبحوا جزءًا لا يُستغنى عنه وخاصة في الحوارات الطربية بين المطرب وبينهم والذي كان يسمى أحياناً بالهنك والجنك. كانت فرق التخت متميزة بأدائها الموسيقي الغني والمزخرف بكافة الأشكال والحليات وفي الاختيارات والمؤلفات الموسيقية، وكان الارتجال أهم ما امتاز فيه التخت، حيث يُظهر مهارة الموسيقيين والمطربين، وهو أمر شبه مفقود الآن في الموسيقى العربية الحديثة.
عُرف عن موسيقى التخت تأثرها ببعض القوالب الموسيقية التركية مثل البشارف والسماعيات واللونجات، ولكن كان تركيزها الأكبر على القوالب الغنائية الشرقية مثل الليالي والمواويل والأدوار والموشحات والطقاطيق والتي امتاز بأدائها أشهر المغنين في ذلك الوقت مثل عبده الحامولي، منيرة المهدية، عبداللطيف البنّا ومحمد عبد الوهاب وعبد الحي حلمي والذين غنوا للملوك والأمراء في حفلات القصور وكانوا يتقاضون أجورًا مرتفعة من الباشوات والضيوف «السمِّيعة». حينها نال الكثير من هذه الفِرق شهرة كبيرة كـ تخت إبراهيم السهلون الذي رافق المغنية الشهيرة أم كلثوم والشيخ سيد الصفتي وتخت محمد عبده صالح الذي رافق المطرب القدير صالح عبد الحي وغيرهم الكثير. ومن أشهر فرق التخت في أواخر القرن الـ 19 و بداية القرن الـ 20 تخت سامي الشوّا، تخت منيرة المهدية، تخت محمد العقاد الكبير (عازف القانون الشهير)، تخت محمد المنسي، تخت محمد المقدّم، تخت محمد الرشيدي، تخت منصور عوض، تخت إبراهيم العريان، تخت علي الرشيدي، وغيرهم.
أما الآلات الموسيقية الرئيسية المستخدمة في فرقة التخت فهي الآلات الشرقية التقليدية وأهمها العود والقانون والناي والكمان والرق. أما أهم المؤلفات التي تقدمها فرق التخت: الوصلات المقامية الطربية والتي تحوي على قوالب موسيقية متداولة ومتوارثة آلية ومنها الدولاب، الاستهلال، السماعي، البشرف، التقاسيم، اللونغا، التحميلة، وأخرى غنائية مثل الليالي والموال والقصيدة والدور والموشح والطقطوقة.
في حين كان التخت يتألف في الغالب من أربعة إلى خمسة موسيقيين، أخذت فرق أخرى بالخروج من الشكل التقليدي للتخت وذلك بتكوين فرق أكبر حجمًا أو متوسطة الحجم سُميت بالـ «فرقة»، وصلت في الحجم إلى فرق مماثلة للأوركسترا الغربية كفرقة الموسيقى العربية بقيادة عبد الحليم نويرة والتي تكونت في عام 1967 بهدف إحياء التراث الموسيقي والغنائي الشرقي بشقّيه الكلاسيكي والشعبي خوفًا عليه من الاندثار. تضمنت «الفرقة» أكثر من 40 عازفًا ومغنيًا وحيث أخذت شكل التخت نوعًا ما، حيث يتوسطهم عازف القانون (وذلك لأهميته الكبرى في ضبط الدوران والقيادة وحيث إنه الآلة المفضلة في مرافقة المطرب الرئيسي في معظم الأحيان، ولذلك سمي بالقانون). يجلس عازف الناي على شمال عازف القانون وعلى شماله يجلس عازفين الإيقاعات والتي تشمل الدفوف (أو التارات) ثم الرق والطبلة (أو الدربكة). أما على يمين عازف القانون يجلس عازف العود (وهو أحيانًا ممكن أن يقوم بدور المغنّي الرئيسي)، وعلى يمينه يجلس عازف الكمان الأول ومن ثم بقية عازفين آلة الكمان حيث يتجاوز عددهم أحيانًا العشرين عازف. يجلس عازفوا التشللو والكونترباص في معظم الأحيان خلف الإيقاعات (أو المكان الذي يختاره قائد الأوركسترا). والمايسترو أو قائد الأوركسترا هو حقيقةً إبتداع جديد كان التخت يخلو منه تماماً، حيث كان التخت يقود نفسه بذاته وذلك بالتفاهم التام العملي والحسي بين أعضائه ولكن في «الفرقة» تغير الحال وذلك بإضافة قائد للأوركسترا ومن أكثر مهامه القدرة على الدمج والتوفيق بين العدد الكبير من الموسيقيين في الفرقة وهم يؤدوون عملاً موسيقياً واحداً في ذات الوقت، وهي مهمة صعبة على أعضاء الفرقة بقيادة أنفسهم بسبب ضخامة حجم الفرقة وصعوبة التواصل العملي والحسّي بين بعضهم البعض مما اضطر الفرقة بالإستعانة بـ (الكونداكتور) أو قائد الفرقة. ومن المهام الأخرى التي أُسدلت إلى قائد الفرقة مهمة التوزيع الموسيقي والغنائي، محاولة شبه ناجحة في توحيد الأصوات واختيار ما هو مناسب للغناء الجماعي ولكنه في نفس الوقت كان له نتائج جانبية ممكن أن تعتبر سلبية برأي بعض المثقفين الموسيقيين العرب وذلك لتحوّل الفرقة الى تقديم طريقة جديدة في الأداء مغايرة للأسلوب والأداء الفني التقليدي المتبع في موسيقي فرقة التخت والتي اعتمدت بدورها على العفوية والإبداع الشخصي.
كانت الفرق الأوكسترالية الحديثة ترتكز على مجموعة كبيرة من المغنين أو الكورال ومكانهم في العادة خلف الموسيقيين يؤدوون الغناء وقوفاً، في الغالب تقف النساء على شمال الفرقة (يمين المسرح) موازية للإيقاعات ويقف كورال الرجال على يمين الفرقة (شمال المسرح) حيث يجلس الكورال خلال تقديم الفرقة لمقطوعات موسيقية آلية. في العادة تركز «الفرقة» على الغناء الجماعي ولكن تلجأ أحياناً إلى استضافة مغني (أو مطرب) يؤدي بعض الأدوار الفردية مثل الليالي أو الموّال أو التفريدات في موشح أو دور أو طقطوقة. يقف المطرب في العادة أمام الفرقة وعلى يسار قائد الفرقة (كما الحال في أداء «الآريا» في الموسيقى الغربية).
كانت تذاع أغاني الفرقة في الراديو وتبث أحيانًا بجهاز التلفاز بالإضافة الى الحفلات الحية حيث يتم تسجيل معظم حفلاتها لتحفظ في الأرشيف الغنائي العربي. وبخلال السنوات الماضية في آواخر القرن العشرين ظهرت فرق أخرى مشابهة في الحجم والمضمون «لفرقة الموسيقى العربية» كفرقة أم كلثوم وفرقة الموسيقى القومية وفرقة الدار وفرقة أمية في سوريا وفرقة التراث العراقي وفرقة الفحيص في الأردن وفرقة كان زمان لإحياء التراث الموسيقي العربي في الولايات المتحدة وفرق أخرى عديدة في لبنان وتونس وليبيا والمغرب وباقي أرجاء الوطن العربي وخارجه. حقيقة أن جميع الفرق المذكورة حاولت جادة الحفاظ على التراث الموسيقي العربي بكافة أنواعة وقوالبه وإيقاعاتة ولكنها في نفس الوقت خسرت جزءًا كبيراً من العفوية والارتجال والإبداع والعاطفة التي كانت تمتلكها فرق التخت الشرقي. لذلك تعمدت بعض الفرق الكبيرة إلى التركيز ولو جزئياً على بعض مقومات التخت داخل الفرقة مثل الآلات الشرقية التقليدية والبرامج الفنية المختارة وطريقة أدائها كجوهر أساسي، والاستغناء بقدر الإمكان عن إستخدام الآلات الغربية كالكيبورد الإلكتروني والجيتار والساكسفون إلخ.
في أواخر الستينات وبداية السبعينات، أخذت الآلات والمقاييس الغربية تأخذ دورًا مهمًّا في تغيير طابع وكيان الفرقة الشرقية وذلك بتوظيف وإدخال آلات موسيقية كهربائية إلكترونية مثل الجيتار الكهربائي والأورغ والباص والذي أعطى شكلاً وطابعًا جديدًا للفرقة الموسيقية الشرقية وأضعف من شأن التخت. أيضاً تعمدت بعض هذه الفرق إدخال ألحان تعتمد على الهارمونية المتبعة في الموسيقى الغربية وتوضيفها في أداء القوالب الموسيقية الشرقية وهو شيء لم يتوافق نسبيًّا مع ذوَّاقي الموسيقى الشرقية التقليدية وحدد من إمكانية استخدام المقامات الشرقية البحتة مثل الرصد والبياتي والسيجا حيث كان التركيز أكثر على مقامات وسلالم ذات طابع غربي كالنهاوند والعجم والكرد وذلك لسهولة التعامل معها في التلحين المرتكز على الهارموني.
تكمن أهمية التخت الشرقي بانه كان ولا يزال مدرسة موسيقية جادة تتم فيه معرفة أسرار الفن الموسيقي الآلي والغنائي، يُكسِب العازفين والمغنين الخبرة لتعزيز مهاراتهم وإبداعاتهم في هذا الفن الموسيقي الشرقي الرائع.
رغم افتقادنا (ولأسباب متعددة) لكثير من الجماليات والقيم الفنية والجمالية للفنون العربية بشكل عام سواء كانت سمعية أو أدائية، مكتوبة، مرسومة أو محكيّة، ولكن من الجميل والمفرح أن نسمع أحياناً أن بعض المسارح والمراكز الموسيقية في أماكن متعددة في العالم تحتفي بتقديم عروض موسيقية لفرق التخت المتواجدة حاليًا وذلك إحياءً وحفاظاً على القيم الفنية التاريخية المتوارثة وذلك من خلال تقديم هذه الفرق لعروض للموسيقى العربية التقليدية وبجميع أشكالها وقوالبها سواء كانت كلاسيكية أو شعبية، فكلاهما غني بجماليات الموسيقى العربية الراقية والمتميزة، يتم تقديمه بدقة بارعة وأداء تعبيري وفني ملتزم وراقٍ ليتناسب وأذواق السميعة والمهتمين بهذا التراث على حد سواء.