سعد القاسم
09 نيسان/أبريل 2019
يقام حالياً في صالة (تجليات) بدمشق معرض النحات جميل قاشا الذي افتتح مساء الأحد الماضي، بعد سنوات عديدة من غياب معارضه عن الجمهور المحب لها.
بدأت رحلة جميل قاشا مع النحت وهو لا يزال طالباً في قسم تصوير كلية الفنون الجميلة، إنه لم يبدأ نحاتاً كما قد يظن المرء. فحين كان يستعد للتخرج من الكلية عام 1983 داعب بالسكين الحصى الصغيرة التي التقطها من الأرض مستوحياً من أشكالها الطبيعية العفوية ما يمكن أن تكونه بعد تلك (المداعبة الحادة) التي حولتها إلى وجوه بشرية، لتتحول معها توجهاته الفنية باتجاه نحت امتلك منذ البداية هوية تربطه به بعد أن لقي ذلك العبث الجميل هوىً في نفسه وإعجاباً من محيطه، فصارت علاقته بالحجر عنوان السنوات التالية الكثيرة، واتجه ليبدع أشكاله على الحجارة المستخرجة من مجريي نهر العاصي والنهر الكبير الشمالي التي صقلتها مياه النهرين المندفعة عبر آلاف السنيين ومنحتها ملمساً متناسقاً حرص الفنان على الحفاظ عليه طالما أمكنه ذلك، وشيئاً فشيئاً انتقل للعمل على الحجارة الأكبر حجماً، والأكثر فرادة، وفي الحالين كانت الطبيعة مصدر مواضيعه وأساسها، وخاصة تلك الطيور والكائنات الصغيرة التي لا تزال تجد ملاذها في البيئة البكر. وفي كل المرات التي بحث فيها عن خامات أعماله كان يختار منها تلك التي توحي له بشكل المنحوتة القادمة التي لا بد أن تحتفظ بشيء من ذاكرتها، وذاكرة المكان خاصة، ذلك أنه اعتبر النحت على الدوام انتماء للجمال والمكان.
وجد جميل قاشا في الحجر، أو لنقل في الحصى بداية، ما يستجيب لخياله الجامح نحو الأساطير الشرقية وحكايات ألف ليلة. ففي ألوانها الغنية، وملمسها الذي صقلته حركة الماء الأبدية ما يجعل منها مصاغ أحلامه ورؤاه التي تعدت المألوف فأدهشت وأمتعت، وأغرت كثيرين بالكتابة عنها. كما أغرتهم قبلاً بتأملها طويلاً. ففي اللحظة الأولى لالتقاء العين بهذه المنحوتات الصغيرة تُخلق الدهشة، تخلقها المادة التي استخدمت، وطريقة المعالجة التي اتبعت ومحصلتهما منحوتات شديدة الإتقان وشديدة الإبهار أيضاً. وفي ما كتب عن تجربة جميل قاشا، أو في معظم ما كتب عنها، كان إبهار التجربة هو السائد، وروح الأدب هي الطاغية. لقد أثارت الأحجار المجلوبة من أحضان الطبيعة الخيال الأدبي للكتّاب وأثارتهم بالقدر ذاته الروح الشرقية التي سكنتها من روح النحات المبدع. ومع معارضه العديدة، والكتابات الغزيرة عنها، تبدو مفردات الكتابة وكأنها قد نضبت وكأنها قد استهلكت. فماذا بعد الحديث عن قدّ الصخر وإدهاش العين… وإمتاع النفس؟
في الحقيقة يوجد الكثير، ومنه ما كان يجب أن يقال مع المعارض الأولى ولم يقل، أو قيل مواربة في زحمة الدهشة والانبهار، وهما مشروعان على كل حال. لكن الحديث عن النحت كفن له مفرداته الخاصة غاب إلا من كتابات قليلة لم تتوقف عند حدود الدهشة الأولى ووجدت فيما شاهدته ما يستحق أكثر من ذلك تقويماً وتقييماً. لقد بدا جميل قاشا ينحت الحصى الصغيرة مستخدماً أدوات يدوية بسيطة لذلك، ومع الأيام كبرت كتلة الأحجار التي يتعامل معها وصارت بالتالي بحاجة إلى ما هو أكثر من أدواته البسيطة تلك فاستخدم أدوات كهربائية تساعده على تشكيل منحوتاته وإعطائها الملمس الذي يشاء. دون أن تستوقفه ولو للحظة واحدة بعض الآراء المتحفظة. بل وحتى دون أن يخفي تلك الحقيقة عن أحد فيعرض صوراً له أثناء العمل يستخدم فيها مصقالاً كهربائياً. هي صورة النحات في زمننا لا بد لها أن تختلف عما كانت عليه في زمن لم يتوفر فيه سوى المطرقة والأزميل. إن هذا الاستخدام البارع لجهاز الصقل الكهربائي مضافاً إليه طبيعة الحجر الذي يستخدمه أعطى منحوتاته تلك الأناقة المثيرة للإعجاب. فالكتلة عنده ناعمة الملمس إلى حد اللمعان وغياب كل سطح حاد عنها. وألوان الحجارة تمتلك أناقة طبيعية أرادها الخالق لها قبل أي كان. وأحسن الفنان بعد ذلك اختيارها. ولا يعني هذا التقليل من أهمية عمله الإبداعي، وإنما هي مقدمة للتوقف عند هذه النقطة بذاتها…
في منحوتاته الأولى بدأ جميل قاشا وكأنه يريد قول شيء لم يستطع قوله في لوحاته الزيتية، رغم إجادته لها، كان يبحث عن لغة تشكيلية خاصة ومادة تستوعب هذه اللغة، وربما وجد غايته في النحت وفن الشرق القديم حيث سحر الحلم والواقع يمتد من بلادنا إلى أعماق الهند فأقاصي آسيا، فقدم أعمالاً لا تخفي هذا التأثر، بل ربما قدمها بديلاً عن أعمال تأثرت بفنون الغرب، وهو ليس الأقرب إلى فنوننا بأي حال. تداعب هواه راقصة ذات ملامح هندية، وجسم فائق الليونة، يستلهمها لصنع تكوينات نحتية قوامها جسم بشري يتطرف أحياناً في حركته إلى أبعد مما هو ممكن فعلاً، دون أن يخسر قدرته على إشعارنا أننا أمام حركة بشرية ولو بولغ فيها. حركة تذكرنا إلى حد بعيد بتماثيل الراقصات على واجهة معبد (كاجوراه) في الهند التي حدثنا عنها ببلاغته الشعرية المتفردة شاعرنا الكبير عمر أبو ريشة.
وبمقدار ما ينجح جميل قاشا في تشكيل الجسم البشري في تكوينات نحتية جميلة، فإنه في الوقت ذاته يقدم تكوينات نحتية مجردة فيها دراسة واعية لحجم الكتلة وعلاقتها بالفراغ من أوجهها جميعاً، وفي هذا وذاك يدفع مشاهد أعماله للتأمل عميقاً فيها والبحث عن مواقع الجمال التي قد لا تكون مألوفة بالنسبة للجمهور وهو بذلك يعوّد الجمهور على رؤاه الفنية الخاصة، ويساهم برفع قدرته على الإحساس بالجمال مجرداً…
في مسعاه لتطوير تجربته يُدخل جميل مواد جديدة على الحجر كالأسلاك المعدنية والخرز الملون وغيرها، يستخدمها إما لغايات تشكيلية، أو لغايات تزيينية وبين هذه وتلك هامش ضيق تتيح مراعاته استمرار الفنان في تقديم أعمال فنية متميزة، ويسبب إهماله وقوع تجربة الفنان في التزيين على حساب الفن. وتشير منحوتاته إلى أنه في معظم استخداماته للمواد الإضافية قد عرف كيف وأين يستخدمها. وللتوضيح أكثر يمكن القول إن جميل قاشا من خلال تجربته الفنية الغنية قدم نفسه كفنان مبدع وكنحات ماهر في الوقت نفسه. ومهارته في العمل هي التي لفتت الانتباه أكثر من غيرها بسبب أن معظم من كتب عن أعماله كانوا من غير النقاد التشكيليين. وأيضاً لأن قسماً كبيراً من جمهور معارضه تثير اهتمامهم الأشكال المجسدة أكثر من الأعمال المجردة. وخاصة تلك المنحوتات التي تجسد بعض كائنات الطبيعة بدقة متناهية تقدم الدليل على مهارته وبراعته في النحت، فيما تقف أعماله المجردة شاهداً أميناً على خياله الإبداعي…
بين أن يعوّد الفنان جمهوره على رؤاه الفنية، أو أن يقدم للجمهور ما اعتاده هذا الجمهور أصلاً. يكون أمامنا إما الفنان المبدع، وإما الفنان الماهر… وفي تجربة جميل قاشا نرى الاثنين معاً من خلال العمل ذاته.
http://thawra.sy/in…/saad_elkasem/170592-2019-04-08-22-10-26
ذاكرة الحجر