عزت مزهر الفنان الخلاق نحتا ورسما
مطوعا المادة للفكرة التي تحاكيه …
عزت مزهر
الفنان الخلاق نحتا ورسما
وضحة سعيد شعيب
ولد الفنان عزت مزهر في قرية صغيرة متواضعة , تدعى حارة الناعمة , إلى الجنوب من العاصمة بيروت , تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط بألوانه الزرقاء المائلة إلى الاخضرار , وأمواجه البيضاء التي كان يسمع هديرها , وهي تتكسر الواحدة تلو الأخرى , فيحسبها سمفونية تعلو وتنخفض طبقاتها حسب الطقس والطقوس , أو كأنها جبال من الثلج تتحطم على صخور الشاطئ , لتتحول إلى حبيبات صغيرة تخالها مع انعكاس أشعة الشمس , عقودا من الألماس أو من زهور الياسمين وهي تتناثر في كل الاتجاهات .
على امتداد الشاطئ , تقف أشجار الموز وغرسات قصب السكر , بكل مشتقات اللون الأخضر , تزينها كرات برتقالية وصفراء , تتدلى من أشجار البرتقال والليمون , فتبدوا وكأنها قناديل تضيء البساتين لتزيدها جمالا على جمال .
ومن جهة الشرق , يتدفق شلال من الصخور ليتداخل مع بيوت قريته , ويكون بشكل طبيعي حائطا من بيت هنا أو سور هناك , أو ليشكل بكل عفوية قنطرة هنا أو هنالك , ومن ثم لترتفع سواعد من أبناء قريته , الذين كانوا يعملون على الحجر , ليتمموا ما بدأته الطبيعة , وليقدوا الأعمدة الحجرية ويحفروا تيجانها , أو ليصنعوا الأجران والمحادل , التي كانت تحدل بها أسقف البيوت التي كانت تبنى من اللبن والقش .
تحت ضربات الأزاميل والمطارق , كان يقف عزت مزهر بكل إعجاب , ليراقب الرجال وهي تعمل بكل جد ونشاط , تحت حرارة الشمس … وكم كان يتمنى لو أن له الخبرة والقدرة على تنفيذ ما يحلم به يومها …
في تلك الأجواء الشاعرية الرائعة , كانت زغردة العصافير , وهي تتنقل من شجرة تين إلى شجرة لوز , تتداخل مع أصوات الماعز والأغنام وأصوات الرعاة والفلاحين , لتضفي على المكان روعة ما بعدها روعة , فتنساب في عروقه , لتعطيه مزيدا من الإلهام ودفقا من العشق , للتعبير عما كان يعيشه ويشعر به في حينها …
في طفولة كل منا ذكريات تبقى صورها راسخة مع مرور السنين … ومن إحدى الصور التي ما زالت في مخزون ذاكرة الفنان عزت مزهر مشهدا لوالدته , وهي تعدو خلفه لتعاقبه , حيث أنه وبواسطة قضيب من الحطب تحول رأسه إلى فحم , راح يرسم به ويخربش على حيطان البيت , فاستنجد بوالده الذي دافع عنه , فاعتبرت موقفه تشجيعا له لمتابعة هوايته .
وعلى ما يذكر , وخلال مراحل الدراسة سواء , أكان ذلك في مدرسة قريته , أم في معظم المدارس التي انتقل إليها … كان يسمع كلمات الإعجاب والتشجيع من أساتذته وأصدقائه على أن يتابع هوايته , وراح يرسم بشغف كل ما يرى , وخاصة بقلم الرصاص , هذا القلم المتواضع الذي يحمل في طياته مزايا مهمة , وهو في نظره بمثابة العمود الفقري لكل أنواع الفنون …
في حينه , بدأ مزهر البحث عن الكتب التي تهتم بالفنون , وتنقل سيرة وأعمال الفنانين الكبار , ورويدا رويدا , بدأ يتعمق في معرفة المدارس والأساليب التشكيلية , وراح يشارك في معظم المسابقات والنشاطات المدرسية , التي كانت تقام من حين إلى آخر … وما زال يذكر بفرح كبير , حين قام بتنفيذ مجسم لقلعة بعلبك من أصداف وثمار البحر , وقدمه لأحد الأندية وتم عرضه في إحدى الحفلات , ليباع بعدها بمبلغ مهم في حينه .
في بلدة الناعمة , حيث صناعة الجرار والأباريق كانت منتشرة , تعرف على مادة الصلصال وراح يمارسها بحب وبكثافة , فاكتسب خبرة عملية في التشكيل , ومرونة في التعاطي مع هذه المادة , التي لم يكن يدري وهو يمارسها بأنها القاعدة الأساسية , وأنها بمثابة جسر العبور للتعاطي مع الكتلة بشكل عام . وهذا ما تأكد منه حين بلغ الثالثة عشر من عمره , حيث صار باستطاعته أن يتحكم بالمطرقة والأزميل , اكتشف بأن ما خبره بتلك المادة من تجارب , كان مفيدا , لا بل ضروريا لمعرفة أسهل طرق الدخول والخروج والتعاطي من الكتلة …
وبأدوات شبه بدائية , راح يتخبط والصخور , وأحيانا كثيرة كان يحاول تقليد ما كان يراه , من حفر لتاج أو لشكل طائر أو زهرة أو حيوان , وكان يمضي الساعات الطوال , ليلتف بإزميله حول جسد أو وجه أو شكل ما , وعندما كان يفشل , كان يضع اللوم على الكتلة , التي كان يعتقد , بأنها لا تحوي في داخلها الشكل , الذي يريد الوصول إليه .
بعدها انتقل إلى بيروت لدراسة هندسة الديكور , بناء لرغبة أهله بعدما فشل في إقناعهم التخصص في مجال الرسم والنحت , حيث أنهم كانوا يعتقدون , بأن هوايته لا تستطيع أن تؤمن له سبل الحياة .
في العام 1966 أنهى مزهر دراسته في هندسة الديكور , وأقنع أهله بالسفر إلى فرنسا , ليكمل تخصصه , وفي باريس عاصمة الشعر والفن , دخل المعهد العالي للرسم والنحت , ولم يخبر أهله بذلك , إلا بعد مضي ثلاث سنوات , وكي يساعد نفسه ويخفف عن كاهل أهله بعض المصاريف , وكي يزداد خبرة , عمل مع أحد النحاتين الكبار , الذي كان صديقا لأحد أساتذته في الجامعة , وكان له بمثابة فرصة في العمل معه , خصوصا في ترميم التماثيل والنقوش التي تعلو متحف اللوفر العظيم , وخلال إقامته في فرنسا والتي استمرت ما يقارب الثمان سنوات , أقام وشارك في العديد من المعارض والنشاطات الفنية والثقافية , وكذلك شارك في أول مهرجان للنحت , حيث عمل مساعدا لأحد أساتذته , وقام بتنفيذ تمثال من الرخام للسيدة العذراء في أحد الكنائس ( كنيسة الفولام ) , وكذلك عمل لمدة سنة ونيف في المركز الثقافي الأميركي في باريس , حيث كان يصمم ” أفيش ” الحفلات , التي كانت تقام بشكل أسبوعي …
سافر إلى إنكلترا , حيث أقام معرضا لرسوماته , وكانت جميعها بقلم الرصاص , وقد كان معرضا ناجحا … كذلك سافر إلى إيطاليا , وزار منطقة ” كرارا ” المليئة بالرخام , حيث شارك في إحدى مهرجانات النحت … وسافر إلى إسبانيا للغاية عينها … وفي اليابان شارك في معرض لوحات زيتية , حيث تم اختياره من قبل مؤسسة يابانية مع ثلاثة من الطلاب الفرنسيين وطالبة يابانية وقد أقيم المعرض في طوكيو .
إلى هذا فقد أغنته تلك النشاطات والمعارض والمهرجانات وزادته معرفة وخبرة , كما أكسبته الاحتكاكات بثقافات وحضارات متعددة ومتنوعة , ساهمت بشكل فعال في تكوين شخصيته الفنية … وفي العام 1974 أنهى دراسته وعاد إلى لبنان …
أول عمل فني نفذه في لبنان , كان تمثالا نصفيا بالرخام لأحد أطباء الأسنان , وقد وضعه في عيادته في صيدا , وكان هذا العمل بالنسبة له , نقطة انطلاق وتحول فيما خص أهله , حيث سنحت له الفرصة ليؤكد لهم عمليا , بأنه يستطيع أن يكسب ويتدبر أموره المالية من خلال الفن … وراح يعمل في محترفه , ويقيم ويشارك في النشاطات والمعارض الفنية والثقافية … وانضم إلى جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت , وشارك , وما زال يشارك في معظم نشاطاتها , وكذلك شارك في معظم معارض الربيع والخريف التي كانت تنظمها وزارة التربية والفنون الجميلة في حينه , ” الثقافة والتعليم العالي ” كما وشارك في معارض : صيدا وصور وقانا والنبطية وجونية وطرابلس وأهدن , وفي معارض دير القمر وبيت الدين وبعقلين وسعدنايل والهرمل …
هذا , ولسنوات عديدة , أعطى دروسا في الرسم والأشغال اليدوية في العديد من المدارس والمعاهد الخاصة … كذلك قام بتصميم وتنفيذ العديد من الأعمال النحتية … النصب التذكاري للشهداء في الدوحة , بمادة الرخام والغرانيت وبارتفاع 570 سنتيمتر , وأقام نصبا تذكاريا على أوتوستراد بيروت صيدا , بمادة الحجر وبارتفاع 635 سنتيمتر تحت عنوان ( وفاء للجذور ) … كذلك أقام نصبا تذكاريا على مدخل الناعمة , حارة الناعمة , بمادة الرخام وبارتفاع 670 سنتيمتر , تحت عنوان ” لقاء ” , وأقام نصبا تذكاريا في ساحة حارة حريك , بمادة الرخام في شارع المقاومة والتحرير , بارتفاع 715 سنتيمتر … هذا وأقام مؤخرا نصبا مميزا للمقاومة في ساحة بلدة الخيام في قضاء مرجعيون , من الحجر الصلب … وشارك في مهرجانات عاليه الدولية الثلاث في الأعوام ( 1999 , 2000 , 2001 ) , وكذلك في مهرجان النحت في جونية للعام ( 2001 ) .
في العام 1975 – 1976 مارس مهنة التدريس بدخوله إلى الجامعة اللبنانية ( معهد الفنون الجميلة ) بصفة أستاذ متعاقد بالساعة , وتدرج إلى رتبة رئيس محترف , ليتفرغ بعدها ويدخل في ملاك الجامعة اللبنانية حيث وما زال حتى تاريخه …
هذا وقد انتخب مؤخرا في الهيئة الإدارية لجمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت , وكلف بمهام نائب رئيس الجمعية , مع ثلة من الزملاء .
عزت مزهر , نحات مبدع خلاق , يذهب بعيدا في أعماله الفنية , وصولا إلى حد تطويع المنحوتة للفكرة المتكاملة التي تحاكي خيالاته … لتكتشف في منحوتاته المنتشرة هنا وهناك , مثابرة نحات لبناني , يشتغل في موضوع النحت تدريسا وممارسة , وله علاقة معرفة بالصخر تعود إلى أيامه الأولى … فإذا به يتفوق في الكثير من أعماله النحتية الفنية , ليقيم تواصلا مستمرا بين الحجر والإنسان , سيما في معانات هذا الإنسان عبر مراحل زمنية معينة … وهذا ما يميز الفنان عزت مزهر عن زملائه .