إلا أن النتيجة التي تمخضت عن ذلك هو الوصول إلى لغة كانت تارة مكتوبة أو مقروءة أو إشارية أو حركية أو أيقونية، ووصول الإنسان إلى اللغة إنما فتح الباب أمامه للتعبير عن أولى تلك المشاعر والانفعالات والهواجس، وكل ما يجول بخاطره ويحدد علاقته وموقفه بالآخرين والبيئة وما تكتنفه في الزمان والمكان.
وهذه كقيمة إنما تحدد تقريباً موقف الإنسان من الفكر الحضاري والمدني في تعمير الأرض، ونشوء الوعي باعتباره من أعلى القيم الكبرى التي تعمل على ديمومة الحياة واستمرارها.
ولعل أولى تلك الوسائل التي اعتمدها الإنسان في التعبير، هي تلك الرسوم على جدران الكهوف، والتي كان يرسمها لأهداف عديدة قد تكون اجتماعية أو دينية أو اقتصادية، أو تحمل طقوساً معينة كان يشعر بحاجتها وضرورتها.
إلا أن حقيقة تلك الرسوم كانت تشكل أولى مراحل الكتابة التي سميت فيما بعد بالصورية، وهي أولى الأبجديات القادرة على التعبير والتواصل، ومن الطبيعي أن ترتقي وسائل الإنسان وأدواته بارتقاء فكره ونشاطه واكتشافه لقوانين الحياة والمادة، فأصبحت وسيلة تواصله “لغته” رمزية ثم مقطعية، وقطعت حقباً زمنية طويلة وصولاً إلى الأبجديات المختلفة باختلاف أمم الأرض والشعوب، وكان كل من هذه الأبجديات يشكل على مستوى الشكل والمعرفة انعكاساً لتلك البيئة والثقافة، ومجموعة القيم والمنظومات المجتمعية لتلك الأمم.
وهكذا شكلت الأبجديات أعلى مراحل تطور وسائل الاتصال الإنساني.
منذ بدايتها كأشكال مرسومة وحتى وصولها إلى أشكال في أعلى مراحل التجريد في الشكل الذي اقترن بالصوت بعد أن كان صورة فقط.
كانت أولى مظاهر نشوء الأبجدية ومن ثم اللغة، كوعاء للفكر ووسيلة لنقل العلوم والمعارف، وكتابة التاريخ التي حفظت الحضارة الإنسانية في كل صفحاتها هي عملية التدوين، أما الحروف العربية فلم تكن لتبقى وسيلة لنقل تلك الأفكار فحسب، وإنما أصبحت العلاقة وثيقة من خلال تمثل الأشكال الخطوط العربية بالبيئة العربية، وما فرضته العقيدة الإسلامية من قيم في الوفاء والصدق والإخلاص والأمانة والتي كانت تشكل المبادئ الأساسية للإنسان في علاقته بالمجتمع والبيئة.
من هذا المنطلق ظهرت أشكال متعددة للخطوط العربية، وعبر عدة قرون بأنواع مختلفة، وكان كل منها يؤدي وظيفة مختلفة، وأصبح لهذه الأشكال قيماً جمالية لها تقاليدها وضوابطها ومنطقها الجمالي الخاص الذي يعبر بصورة واضحة عن الثقافة العربية الإسلامية، وكان هذا التنوع والتعدد مصدر ثراء في قيم المجال كما هو الأمر في مجالات الفكر والفلسفة والأدب والشعر والعلوم التي ازدهرت في القرن الرابع الهجري.
من هذا المناخ العام تستقي العديد من الأعمال الفنية العربية قيمتها الجمالية في أساليب شتى، ولاشك أن الخط العربي بمنطقه الجمالي الخاص يعد فناً جميعاً وليس فردياً، فقد اجتمعت كل أسباب ومفردات الجمال العربي لإرساء قواعده وأصوله طيلة قرون عديدة، بما يجعله يشكل بنية شبه مغلقة لا تقبل الإضافة أو الحذف، ليس بكونها تجربة عقيمة وإنما يحتاج إنقاصها ثانية إلى استدعاء كل تلك القيم التي نشأت وتطورت بسببها عبر أربعة عشر قرناً من الزمن.
وفي ضوء ذلك يعد الخطاطون الخروج عن القواعد والأصول والموازين الموروثة في الخط العربي انهياراً لمنطقه الجمالي، ذلك أن هذا الفن ينتمي إلى المنطق الجمالي في الفنون الإسلامية عموماً الذي ينظم ويعيد للتجربة الإنسانية علاقتها الوثيقة بخالقها، ولتجعل من الخالق مبدعاً ومن الإنسان مخلصاً متقناً.
وفي خضم التجربة العربية الجمالية تبزغ لنا اتجاهات متعددة في استلهام الحروف العربية في الأعمال الفنية التشكيلية ذات البعدين وذات الأبعاد الثلاثة، ليس على أساس ما يشكله الحرف من نسق داخلي في المنظومة الحضارية وما تحويه من رموز وإشارات وأيقونات.
على هذا الأساس، فإننا نستطيع التمييز بين مجموعة الأعمال التي تناولت الحرف العربي في تكويناتها، وبنائها الفني في الاتجاهات الآتية :
1) الاتجاه الأول: (استلهام المنطق الجمالي للخط العربي)
وهو ما يظهر بصورة واضحة في تلك التجارب الفنية التي حافظت على قوانين الحرف، وقيمته الجمالية، كتجربة حضارية أصلية تمتد في عمق التاريخ العربي، وتعكس هويته وإنسانيته، وتلاقح هذه التجارب دون تكرار لما اعتاده الخطاط، وذلك باعتماد صيغ وعناصر أخرى تجتمع مع الحروف كالكتلة واللون والاتجاه والملمس، والعديد من العناصر والمبادئ الأخرى المتمثلة بخزف “ماهر السامرائي”، ومنحوتات “إياد الحسني”، التي زاوجت بين المطلق والحياة، بينما كان الأرابسك يلتصق بالمعمار الديني، ويرتبط بأفكار إستعمالية محددة, وهذه التجارب تمنح الفن حرية أكبر في فهم الإبداع الفني في كون الفن يدخل في تركيب النفس البشرية، بصرياً وعلى صعيد المعنى الروحي للوجود، فالأعمال الخطية المعمارية تستقل كنصب تنتمي إلى كل زمان، أي أنها غير خاضعة للتاريخ، رغم أنها تمتاز بالخبرة الواسعة في مجال الإبداع الفني والجمالي.
وهذا يعني أن الفنانين يوسعان من رؤيتهما ليجعلا رسالتهما وليدة عدة عصور سابقة، مثلما هي وليدة الحاضر كموقف من الوجود والأزمان والاغتراب، حتى أن اللون الأبيض لون الأعمال لدى “إياد الحسيني” يذكرنا بكل ما هو طاهر ومقدس، فالفن عنده نوع من العبادة، لون الفن لا يختلف من العمل الصالح والأخلاقي من الطراز الرفيع الجليل، وهذا الإيحاء اللوني يرتبط بالنحت والعمارة على نحو متماسك، أو جميع هذه العناصر تكون في الأخير وحده عضوية لجماليات تكاد تكون مضاداً لكل ما هو نقص أو مباشر في التجارب الحديثة الأكثر ترفاً أو الباذخة بمشكلات آنية أو خاضعة للتلف أو الزوال.
فاستلهام روح الخط، ذلك السر الكائن في اللغة المقدسة، كل لغة تريد أن تصدر علماً ميتافيزيقياً خالداً.
فتجربة كتابة العربية وعشقها حتى التصوف إنما مع احترام مثمر للعلوم الحديثة، وللتقنيات المعاصرة التي تقوي الإيمان، وتزيل كل شك باطل في الدنيا وزمنها الفاني، فالكتابة أو الخط تذكار لرفاهية روحية عميقة نابعة من نفس صافية، تواجه عصرنا هذا المضطرب والشائك والفاسد في كثير من جوانبه.
ففي النحت صمم “إياد” نماذجه بلغة الموسيقى، لأن النحت عنده لا ينقى إلى التشخيص بل إلى الحلم الروحي الواعي الذي يراه بالقلب.
كذلك المعمار لدى مصغرات “السامرائي” و”محمد شعراوي” التي يكون بعداً إيحائياً لخيال الفنان تجاه أمانيه ونياته. وفن المعمار يمنح بعداً لا ينفصل عن النحت، ولا عن دخول الحرف فيهما، فعملية الدمج جاءت للخروج من أزمة التقنية التقليدية التي يعيشها التشكيل العربي اليوم، ومعنى هذا أن الأعمال المنجزة مصححة لتنفذ كنصب تذكارية لا أن تكون مجرد أعمال فنية.
فالوعي بالخروج من أزمة التقنية التقليدية ومنعها أدى إلى الخروج للفضاء الكبير بخطاب يوازي الخيال الخصب الذي يجعل من الفن لغة يومية قائمة على الأساس الروحي، ومنفذه بخبرة وحساسية تناسب توجهات الموضوع الفني أصلاً.
بينما يعيد “السامرائي” الأرابيسك الديني في المسجد في الخزف من خلال ألوانه: الأزرق، الشذري، الأبيض، ولون الذهب إلى اختصار ذلك المعمار الديني في عمل تتركز جماليته ودلالته الرمزية في نحت خزفي يواجه الملتقى بحروفه، وكلماته المقدسة والتي تبدو أحياناً كصفحة من كتاب مقدس كتب في القرون الأولى للهجرة. وعبر تلك الثنايات والكتل يترك الزمن بصماته على الأثر الجمالي الذي يعمق قيمة المعتقد والكلام المقدس.
وتخاطب هذه التجارب حداثة تستلهم المنطق الجمالي للنقد الإسلامي بلغة جديدة تتناغم في آن واحد مع الخطاب العربي الأصيل لقيمة الجمال، ومعناه وأركانه وثوابته، وفي الوقت ذاته تعيد ترتيب العناصر، ومكونات العمل الفني وفق رؤية جديدة تمتد في الخطاب الجمالي المعاصر.
2) الاتجاه الثاني: (استلهام القيمة الرمزية للحرف العربي)
في إطار من الفلسفة التصويفية، كما هو الأمر لدى “الحلاج” أو “النفري” يوجد العديد من التجارب الحروفية التي عملت على إعادة تكوين اللوحة على أساس وقفها البصري الرمزي المجرد باعتبارها ذلك السر الكامن الذي تبحث مغاليقه عن مفاتيح له عند المتلقي، والوصول بالحرف إلى قيمة بذاته، وفي الوقت ذاته لا يؤدي تلك الجمالية التي أحاطت بمناخها الفكري، وتجريد الحرف عن هذه القيم كما هو الأمر لدى الفنان “شاكر حسن آل سعيد”، إنما يعيد للحرف العربي تلك القيم لما قبل البدائية، أو تلك الرموز التي نجدها على اللقى الأثرية، أو تلك الإشارات التي تتركها الحضارة على جدرانها ومسلاتها، دون أن تعني شيئاً إلاّ كشاهد على وجود تلك الحضارة بواسطة ما يعبر عنها من رموز ودلالات.
وهذه المعالجة إنما تطلق الحرف كقيمة حضارية لا تختص بالحضارة العربية رغم كون الحرف العربي الدلالة، إلا أنها تنتمي إلى الأفق الأوسع في الحضارة الإنسانية ممتدة من الماضي إلى المستقبل مروراً بالحاضر.
وهذا يعني أننا أمام تجربة فنية يدخل التاريخ طرفاً أساسياً في رسم مساراتها وقيمتها الجمالية.
وتمنح هذه التجارب حرية واسعة للفنان في صياغة خطابه الجمالي على أساس قيمة التجربة الذاتية للفنان، ورؤيته الفكرية، وإطارها الجمالي.
لا شك أن المنهج الفكري هنا يستعين بشكل كبير بالمفاهيم الأوربية التي سادت مع ظهور المدرسة التجريدية، ومن بعدها التعبيرية، كما تجسدت بأعمال “بول كلي” و”كاند منسكي” منذ قرن من الزمان، والتي كانت تسعى بفضل الفن من محيطه؛ لتحويله إلى عالم قائم بذاته يعاني من الكثير من التفكك والاغتراب.
بينما تؤكد أعمال يوسف أحمد تلك الموسيقى الغنائية الخفية الناتجة عن إيقاعات الحروف بنسبها وألوانها وتبادلاتها، مذكرة بذلك الأرابيسك العربي ومن تكوينات تستوحي الجمال العربي الإسلامي ومن صيغ إبداعية جديدة.
وهو هنا كما يرى “شنجبلر”: “إن كل فن هو لغة تعبير”. أو كما يرى “بنرتو كروتشه” بأن الفن تعبير أو لغة تعبيرية يقوم فيها الفنان عبر عملية الإبداع بتقديم شيء جديد يختلف عن الواقع المعاش وإن كان ينبثق منه في معظم الأحيان.
وقد سعى “يوسف أحمد” في أعماله إلى أن يكون للواقع معنى مغاير للمعاني السائدة، أي كان عليه مهمة اكتشاف عالم جديد لا غبار عليه، باعتبار عملية الخلق التي تعيد تنظيم الحياة وفق رؤية الفنان وفلسفته الجمالية، وفي مقدمتها مسألة التعبير.
بينما تعيد لنا أعمال “محمد عبد العال” ذلك الزمن الطفولي في مداعبة الخطوط والألوان، وتناغم المسامات بطريقة تعتمد تلك العفوية والجرأة والتنظيم في التكوين، وهو ما يتفق مع أسلوب وتكوينات “سعد العدوي” الذي يستمد دلالاته التكوينية من ذات المناخ العام للوحة على أساس التناغم في العناصر والأسس، والعلاقات الناشئة بينهما.
وتذكرنا دقة التفاصيل والانتظام في أعمال “قويدر التريكي” بجانب من أعمال المنمنمات التي تمثل جزءاً حياً من الخطاب الجمال العربي الإسلامي في إطار من الروحية الزخرفية التزويقية التي تمنح لذاتها أبعاداً جديدة، وهي في الوقت نفسه تعيد تشكيل الخطاب الجمالي وفق رؤية عربية معاصرة تؤدي فيها الأيقونات وقعاً بصرياً حداثوياً.
3) الاتجاه الثالث: (الخط العربي كقيمة توضيحية)
وهو الجانب الذي ارتبط به الخط العربي في أدائه الوظيفي للتعبير عن الأفكار والمواضيع كوسيلة لغوية، وضمن منطقها الجمالي الذي توارثه الخطاطون في قواعده وأصوله، وهنا يحاول الفنان استخدامه كوسيلة إيضاحية تربط بطريقة دلالية بين النص اللغوي الذي يحمله الحرف العربي من ناحية، ومن ناحية ثانية يشكل علاقة وثيقة بمفردات وعناصر اللوحة الأخرى. بحيث يشترك الرسم والخط العربي في معنى مفاهيمي واحد، وهو مادامت عليه العديد من الأعمال الفنية العربية، وتسعى هذه المحاولات إلى طرح مفهوم التراث الشعبي في إطار جمالي، يمتلك مقدرة تعبيرية وبتأكيد كخطاب جمالي موجه مرتين بالحرف والصورة، وهو ما نجده في أعمال “مصطفى فروخ” أو في أعمال “عبد الله المحرقي”.
تؤشر هذه الأعمال قيماً جمالية تداولية بسبب وضوح خطابها الجمالي، ولما تتمتع به من قدرة على التعبير عن مضامينها الدينية والاجتماعية والأوربية.
ومما يؤخذ على مثل هذه التجارب هو اعتمادها على تقنيتين مختلفتين على مستوى المادة، وطريقة معالجتها، واستخدام أدوات مختلفة، مما يشكل أسلوبين مختلفين على مدى رؤية العمل الفني الجمالية في صيغتها النهائية، لاشك أن التعبير كقيمة أساسية في العمل الفني تعتمد بشكل أساس على المادة، وطريقة صياغتها، أي إن استخدام الفرشاة وألوان الزيت ذات اختلاف كبير عن تقنية الخطاط وأدواته في الحبر والورق والقلم، وقد تقاوم المادة الخام الفكرة أثناء صياغتها، لذا فإن مهمة الفنان هنا هي إعادة تنظيم المادة الخام وتطويعها بما يتلائم والفكرة الأساسية لرؤيته.
بينما تنحى بعض الأعمال باتجاه الميل إلى الاختزال، وإعطاء المعالجات التصميمية لسطح اللوحة الفنية أهمية أولى في الرؤية البصرية التشكلية، ورغم اعتماد بعض هذه التجارب على اقتباس أعمال خطية لكبار الخطاطين، واستعارتها في لوحاتهم بعد معالجتها تكوينياً ووضعها بطريقة لا تتفق كثيراً مع منهج الخط العربي كنص لغوي وبصري، إلا أنها تعيد قراءة اللوحة العربية وفق رؤية جمالية معاصرة، تجعل منها أقرب إلى لوحات التصميم، كما هو الأمر لدى الفنان “هاشم سمرجي” في تكويناته الحروفية.
ويضيف هذا الاتجاه أسلوباً جديداً في معالجة اللوحة سواء على مستوى الشكل أو الفكرة أو التقنية، في محاولة لخلق علاقة بين المنطق الجمالي للخط العربي بما يحويه من عناصر متعددة، فضلاً عن النص الذي يحمله ذلك الخط ودلالته اللغوية، والمفاهيمية من جهة، واختلاف الرؤية المعاصرة على مستوى الجوانب الثلاثة المذكورة، وهو بذلك إنما يخلق إشكالية جديدة في انتمائها لأكثر من منطق جمالي أو رؤية فكرية، قد تكون مختلفة أحياناً ومتقاطعة أحايين أخرى.
4) الاتجاه الرابع : (الحرف العربي كنسق تأويلي )
لاشك أن الحرف العربي مصدر ثراء فكري وفني وجمالي وأولى صوره البسيطة كانت تحمل تلك الملامح الأساسية فيه، وأول مظاهرها الوظيفية والجمالية هي صفحات تلك المخطوطات التي كان ينسخها الوراقين والخطاطين في المصاحف والدواوين والمعارف والعلوم، فكانت أبسط المفاهيم الجمالية فيها تلك العلاقة الناشئة بين الحبر الأسود أو البني والورق، وما تتركه هذه العلاقة من إيقاع بين المساحات التي تشغلها الحروف والأرضية كفضاء يحتوي تلك النصوص المزدحمة والمتجهة أفقياً تارة، أو عمودية أو مائلة تارة أخرى.
وهي بهذه الصورة إنما تشكل نسيجاً إيقاعياً ذو تأثير بصري مباشر، يجعل من الرؤية موسيقى بصرية تدركها العين، كما هو الأمر بتلك الموسيقى التي تدركها الأذن.
وفي حالات الوجد والعشق الروحي كان الخطاط يعيد كتابة الحروف مرات ومرات لغرض الكشف عن ذلك الصوت الخفي الذي ينظم ارتفاعاته وانخفاضاته، ثم يكرر ذلك بما يجعل صفحة الورق تتكمل بالسواد (التسويد) في الحروف وتشكيلاتها حتى لا تكاد ترى مساحة بيضاء.
وعندما يتكرر الحرف بصورة طبيعية كناتج لـ (مشق) الخطاط، إنما هو ينقل كل خصائصه الجمالية والتكوينية إلى مساحة أخرى ترتبط بإيقاع وتناسب وتكوين يؤكد صلاتهما الوثيقة، أو إن كانت هذه الوسيلة التكرارية تنحى منحنى زخرفياً في إيقاعات قد تكون متناقصة أو متزايدة أو رئيسة أو عكس ذلك، إلا أنها في النهاية تتبلور كرؤية جمالية تستمد قيمتها من الخطوط بجهد إنساني خلاق ذو تقنية خاصة، طالما توجت أعمال الوراقين والنساخين والخطاطين.
واستلهام هذه الرؤية إنما يجسد ذلك العمق الحضاري للخطوط، ودوره قبل ظهور الطباعة كمحور للفكر والفن والجمال وكوسيلة لتنفيذهم.
وتتجه أعمال العديد من الفنانين المعاصرين هذا الاتجاه كرؤية جمالية.
ومن المؤكد أن المعالجات الذاتية لكل فنان تضفي عليها طابعاً خاصاً يمنحها قيمة أسلوبية، كانت في الأصل بعيدة عنها ليس لضعفها، وإنما لانتمائها الجمعي كقيمة جمالية لا تشكل ناتجاً فردياً، وإنما رؤية جماعية لقيمة الفن، ومعنى الجمال.
وتبرز في هذا المجال أعمال الفنان “نجا المهداوي” التي تأخذك أعماله بعاطفة ذلك الجهد الخلاق التي بيذله الخطاط العربي في النسخ والتكرار معطرة سطورها بعبق الزعفران وأريج المداد وأصوات القصب.
ولكنها هنا تعيد ترتيب سردها لتجعل من السطور والكلمات والحروف قيماً تكتنز بينها الكثير من الدلالات البصرية، فهي تارة دقيقة، وأخرى سميكة يطغى عليها السواد على كتلها وحركاتها وإيقاعاتها.
كما يؤكد “رشيد القريشي” هذا النهج في أعماله الفنية، عندما يجذبك ذلك البناء الحروفي الذي يتصدر اللوحة بطريقة مطلقة ومتناغمة ومنسجمة، وكأنها قد أحسن رسمها خطاط في دلالة بصرية فائقة.
بينما لا يبتعد “رفيق لحام” في لوحاته عن هذا المنهج الذي يتبعه الخطاط، عندما يرص الحروف أو يقاطعها أو يوازيها، فيخلق الحرف إيقاعات متناغمة حتى وإن لم يكن الفنان يقصد إيجاد تلك الإيقاعات والنغمات.
وهي بذلك إنما تشكل نسقاً بصرياً يعيد ترتيب حروف الخط العربي وفق ذات المنهج ولكن بنتائج مختلفة.
وتبرز إشكاليات التقنيات التصميمية، وطريقة معالجتها للخروج بتقنيات تنفيذية، أي أن العديد من اللوحات التي كانت تحمل خصائص تكويناتها، إنما أضيف لها تقنيات جديدة عليها، وأحياناً غربية، ثم تم طبعها بالليثوغراف أو الزنك أو النحاس.
ويقترب الفنان “نذير نبعة” كثيراً في معالجة سطحه التصويري من رؤية “يحيى الواسطي” في عملية السرد التي يكتنفها الخط والرسم ليكتمل بعضها البعض الأخر. في إطار تزويقي وجمالي أخاذ، فهو تارة يؤكد وظيفة سردية وروائية، وأخرى شكلية وجمالية، رغم أن لونها الوحيد هو ذلك اللون الذي اعتاده الوراقين في استنساخ الكتب والمؤلفات، وهو الحبر الأسود على الورق.
كما تذكرنا أعماله بذلك الموروث الحي للشعوب العربية في تطورها الإنثربولوجي من خلال الحكاية والرواية في أبو زيد الهلالي وعنترة العبسي، أي أن قيمة الجمال تدخل في صميم التجربة الاجتماعية لتشكل معها نسقاً ونسيجاً واحداً، وإن كانت للموروث أقرب منها للمعاصرة، وهذا لابد من أن يعيد صياغة نظرته الفنية وفق أساس إبداعي مغاير.
ويعيد “محمد غنوم” للحرف موسيقاه بتلك التكرارات الإيقاعية المتزايدة والمختلفة وباتجاهات متعددة بطريقة تكتسب منحنى زخرفياً.
إن المعالجة اللونية تأخذ المنحنى الزخرفي في طريقة التكوين، معتمداً طريقة تقنية تتوسط تقنيات الخطاط في مداته وتدويراته.
لا شك أن الفيصل في انتماء اللوحة للحروفية من عدمها، من خلال وجود الحروف كعناصر تكوينية تنميها، ويكاد هذا الحرف عن بنيته اللغوية في أعمال “حسين ماضي” حتى لا تكاد تميز حرفاً فيها، وقد تعمد الفنان ذلك ليعيدنا إلى ذلك النسيج الزخرفي العربي، وليستلهم حركة الخط واتجاهات الحروف، وطاقاتها الكامنة في خلق خلخلة بصرية مرة بالأشكال، وأخرى بالحركة، وثالثة بالألوان. حتى تكاد تطالبنا بصرياً تلك المفردات المتكررة بطريقة زخرفية ليس غريبة عن المنطق الجمالي للفن الإسلامي. ومابين هذه الدلالات وإيقاعات العناصر، يعيد “حسين ماضي” بناء ملامح خط المسند الحميري، أو يذهب أبعد من ذلك إلى مفردات الأبجدية السومرية.
إن القيمة الفلسفية والحضارية لتجربة الحروفية أو استلهام الحرف داخل اللوحة التشكيلية، هي محاولة ذات اتجاهين في أساليبها التي ذكرناها، وهذين الاتجاهين هما علمي وتجريبي، لأجل المقارنة بين عالمين مختلفين في الفكر والتقنية، وهما (عالم الحرف) اللغوي، و (عالم البعدين والثلاثة أبعاد) التشكيلي.
وهنا تظهر إشكالية الجمع بين عالمين أحداهما إنساني وأخر لا إنساني، لأنها تتجاوز عالمها الذاتي نحو أفقها الكوني.
ومثل هذه التجارب تحتوي على أكثر من محاولة تشكيلية، المحاولة الأولى: تشكيلية ترتيط بعاملها الزمكاني، والثانية: كقيمة لغوية مرتبطة بعاملها الزماني، وهذا يعني أن الفنان لا يريد فقط أن يناقش الوجود المكاني أو الزماني بل كليهما معاً، وفي آن واحد.
إن محاولة إدخال الحرف في ذاتها عملية توسيع لرؤية الفنان، بحيث تصبح التقنية محاولة تلصيقية من خلال الجمع بين الحروف من جهة، والمفردات التشكيلية من جهة أخرى، ومن خلال هذه المزاوجة، يبرز الحرف من الناحية التقنية كشاهد من شواهد عالم اللغة عند حضوره كعناصر على السطح التصويري، ولكنه يبقى محاطاً بهالة من عالم القيم اللغوية، فضلاً عن علاقته بالمنطق الجمالي للخط العربي.
إن التنوع الهائل في تقنية استخدام الحرف أثرت اللوحة التشكيلية العربية المعاصرة بأن طرحت العديد من التأويلات الجمالية من خلال أساليب الكتابة التي تشبه إلى حد كبير كتابة الأطفال ذات العفوية البالغة، أو بأسلوب الكتابة على الجدران التي يترك الزمن أثرها عليه كالشقوق والكسور والانثلامات، أو الخط المنحني المكتوب بإجادة في اللوحات الخطية العربية.
وفي كل الأحوال فإن هذه الكتابات ذات قدرة واضحة على التعبير عن القلق والعفوية والخوف، كما أنها زاخرة بإشارات التعمية والكبت والتضليل.
إن المناخ الحروفي العام في تجربة الحروفين العرب غالباً ما كانت تستذكر كل تلك الأنواع الخطية التي تداولت عبر تاريخ (كالثلث والنسخ والديواني والتعليق والكوفي …الخ)، رغم عدم مقدرة فناني تلك اللوحات على إجادة تلك الخطوط، وبالتأكيد لم يكن في أي حال من الأحوال أن يتحولوا إلى خطاطين في لوحاتهم التشكيلية.
إنها شواهد بلاغية على كل التراث الرمزي والصوري والصوتي والتأويلي للحرف العربي على مدى تاريخه الطويل، ودوره الجمالي، وما يتميز به من خصائص في شكله ومطاوعته في التعبير والتبديل كأنغام الموسيقى وإيقاعاتها. ولم تكن هذه الخصائص والصفات لتستولي على عقول الفنانين العرب وأذواقهم، بل غالباً ما استهولت العديد من الفنانين الأوربيين، أمثال: (كلي، وميرو، وباومايستر، وآراب، وتابس، وكلاين، ونوفيللي، وراوشنبرك، وهارتنك، وآخرين).
هكذا دخل الحرف العربي في تاريخ الفن الجمالي بشخصية تأملية وتعبيرية جديدة معبراً عن التقاليد الفنية في الحضارة العربية الإسلامية كبعد روحي ووظيفي وشكلي وجمالي معاً.
وبتقنية خطاط من خلال الأثر التي تتركز فرشاة “علي حسين” تعيد لنا استذكار تلك التقديرات والإرسال والاستدارات التي تكون الحروف العربية؛ إلا أنها هنا لا تدل إلا على تلك الحركات الكامنة في الخط واتجاهه، وهو ما كانت تتميز به الخطوط العربية التي كانت توصف بالسعي الدائم والدؤوب للحركة، باتجاهات مختلفة مستوحية من حركة الأرابسك (التوريق) قيماً جمالية تدل على ديمومة الحياة من خلال ما يتركه الإنسان من فكر وحضارة، وهو بهذا ليس بحاجة إلى تزويق لوحاته، وإنما تكتفي بذلك الألق التي تميزت به المخطوطات العربية التي اقتصرت على الحبر والورق. قد تذكرنا بعض ملامح اللوحة وحركة الحروف واتجاهها العمودي بما امتازت به كتابة أمم وشعوب أخرى في شرق أسيا، وهذا لا يتقاطع مع القيمة الحضارية بقدر ما يعزز أهميتها ووجودها كنتاج للفكر الإنساني أينما وجد.