تمر هذا الأسبوع الذكري السنوية لميلاد العلامة المؤسس الفكري لحركة الإصلاح الحديث رفاعة رافع الطهطاوي، الذي ولد في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 1801، بمدينة طهطا إحدى مدن محافظة سوهاج بصعيد مصر، هذا الشاب الأزهري الذي بعثه حاكم مصر محمد علي باشا إلى فرنسا ليكون إماماً لبعثة فنية تكون نواة للتقدم العلمي لمصر عام 1826، فكانت وظيفته هي الحفاظ على ثوابت العقيدة والقيم لدى المبعوثين، وإن كان أستاذه الذي رشحه (حسن العطار) قد طلب منه متابعة ما يراه في باريس وتدوينه. ولا أعتقد أنه كان يتصور يوماً أن تلميذه سيكون اللبنة الأساسية لنقل الفكر والتحديث لمصر، ومنها للعالم العربي، في فترة كانت مصر والعالم العربي ترزح تحت وطأة التخلف الفكري والثقافي والحضاري للدولة العثمانية التي عزلتنا عن العالم الخارجي، فكان كتاب الطهطاوي الشهير «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وكتبه الأخرى، خطوة نحو آفاق جديدة من المفاهيم والأفكار.
لا خلاف على أن الطهطاوي قد تعرض لصدمة حضارية خلال بعثته التي استمرت حتى عام 1831، ولكنه ظل على قناعاته بقيمه وعقيدته، فلم تفتنه الحداثة الغربية في شتى المناحي، كما حدث (ولا يزال يحدث) مع البعض حتى اليوم، فاتبع منهجاً دقيقاً للغاية للحفاظ على العقيدة من ناحية، وإدخال التنوير والحداثة من ناحية أخرى، دون الإخلال بالهوية العربية / الإسلامية، ومن ثم حرصه على نقل ما شاهده، بل والأهم التعرف على الأسباب الموضوعية للتقدم الغربي، وهو ما دفعه للتركيز وبشدة على عملية الترجمة، ووضع أسس للتعليم تكون نواة التقدم المرجو في مصر، فأنشأ بأمر الحاكم «مدرسة الألسن»، التي قامت بتدريس اللغات المختلفة، غربية أو شرقية، والتي سرعان ما تحولت لمدرسة أشمل، احتضنت كثيراً من التخصصات، منها العلوم الطبيعية والسياسة والتاريخ… إلخ، بما يمكن تصنيفها على اعتبارها جامعة بالمفهوم الحديث، ثم أضيف لها مهمة تخريج كوادر للدولة، فكانت النواة التعليمية بعد أن اقتصرت حركة التعليم على الأزهر الشريف والكتاتيب، فصارت صرحاً فكرياً وإدارياً كبيراً له إسهاماته في بناء الدولة، وتخريج رجال الدولة.
ولعل أعظم ما قدمه الطهطاوي أيضاً كان بدء حركة الترجمة في البلاد لنقل التراث الغربي، سواء العلمي أو الفكري أو الأدبي، إلى اللغة العربية بهدف الاستنارة والتقدم، فترجم مئات الكتب. وتؤكد إحدى الدراسات أن الطهطاوي وتلاميذه ترجموا أكثر من ألفي كتاب في أربعين عاماً، وقد أضافت ترجماته عنصرين أساسيين: أولهما ترجمة مصطلحات دارجة في الغرب إلى العربية، وقيمته المضافة هنا كان سعيه لتقريبها لمصطلحات ومفاهيم مشابهة في العربية والتراث الإسلامي عندما لزم الأمر، حتى لا تكون بعيدة ذهنياً عن مرمى القارئ. أما العنصر الثاني فكان تركيزه على اللغة العربية مقابل اللغة التركية، التي كانت سائدة في الدولة على مستوى الحكم والإدارة، وليس أهم من أنه قام بإعطاء الأولوية للغة العربية في صياغة «جريدة الوقائع المصرية»، بعد أن كان التركيز عليها بالتركية، وهو ما يجعله أول من وضع لبنة التعريب لهذه الدواوين، وفصل الدولة المصرية لغوياً عن الدولة العثمانية، وهو بذلك يمكن اعتباره من رواد فكرة القومية أو الوطنية المصرية مقابل الأممية العثمانية، فضلاً عن تأليفه لأول نشيد وطني لمصر.
وعلى صعيد الفكر فقد كان أول من أنشأ صحيفة مصرية، هي «روضة المدارس»، وكان لها دورها في نشر الفكر والثقافة والعلوم، كما كانت له مؤلفات كثيرة متنوعة، من العلوم الطبيعية إلى السياسة والفكر، خصوصاً في ما يتعلق بأنظمة الحكم، وغيرها من المسائل التي تأثر بها، تماماً كما حدث مع محمد عبده بعد ذلك، ففكره الأساسي انصب على التوفيق بين هذه المفاهيم الحديثة للحكم والتراث الإسلامي، فلم يسعَ لإنكار ضرورتها، ولكنه سعى لإيجاد أصول وجذور لها في التاريخ والشريعة الإسلامية يمكن البناء عليها، بل إنه ترجم مفاهيم سياسية على أساسيات تفسيرية لمفاهيم إسلامية، فالحرية عنده تعادل في الشريعة مفهوم العدل والمساواة، منادياً بأخذ المفاهيم التي تناسبنا وتجسيدها على خلفية الأصالة. ومن هذا المنطلق أيضاً، فإنه يمكن اعتبار الطهطاوي في حقيقة الأمر أول من نادي بشكل عصري لمسألة تحرير المرأة، قبل محمد عبده وقاسم أمين بعقود، ولم يستبعد دوراً للمرأة في قيادة الدولة المصرية، وبالتالي يمكن اعتبار دور هذا الرجل مبنياً على جملته الشهيرة «لا بد لعمل الشرع مع العقل».
لا خلاف على أن عظمة الطهطاوي وآثاره متعددة، لا مجال لحصرها هنا، وأنه يعد بالفعل المؤسس لحركة التنوير والإصلاح التي استند إليها من أتوا بعده، مستغلاً رؤية مستنيرة وعيناً فاحصة انتقائية للتحديث. وتقديري أن أهم إنجازاته كانت اهتمامه بالترجمة، كأداة لنقل التمدن، وباعتبارها الجسر الأول لأي تقدم، سواء في زمنه أو اليوم. فإذا ما طبقنا مقولة شارلمان الشهيرة: «أن يكون للمرء لغة ثانية هو أن يكون له روح ثانية»، فإن الطهطاوي قد بعث فينا أرواحاً متعددة وأفكاراً متجددة، وما أحوجنا اليوم للبناء على نموذجه لسد الفجوة القيمية لصناعة الجسر بين الأصالة والحداثة.