لقد رأي “دي لاروش” أن آلة التصوير الضوئييمكنها أن تزلزل قواعد أعمدة الفن التشكيلي الراسخة بالقيم الموروثة منذ عصر النهضة، و ما هي إلا سنوات قليلة حتى بدأت الانطباعية أولى التجارب المذهبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بالظهور متجاوزة القيم السابقة لوناً وإضاءة وإيقاعاً، ويعزى ظهور عشرات المدارس الفنية، فيما بعد إلى آلة التصوير الضوئي التي قلبت المفاهيم الأكاديمية السابقة إلى تجارب جديدة في البحث الفني، ربما كانت “الانطباعية”، أكثر هذه التجارب وضوحاً في الاستفادة من علوم التصوير التي ظهرت آنذاك من حيث التحليل الضوئي للطيوف، واكتشافات فيزياء العدسات والبحث عن تفاعلات لونية جديدة، لم تكن لتطرح في شكل ولون اللوحة، ومقاربة فنون المرحلة عموماً لإيقاع جديد من الحياة التصق بالشارع واليومي، وأكد على الطبيعة والعناصر الكونية الأخرى، ولم تتوقف مسيرة البحث الفني عند تيار بعينه، ولكن بعبارة أخرى يمكن القول أن ظهور كل هذه التيارات وحتى اليوم كان سبباً غير معلن عن ظهور آلة التصوير الضوئي التي ألهبت خيال أكثر الفنانين وحفزتهم على تجاوز الأساليب القديمة… ولسنا هنا في مجال تقييم طاقات وقدرات فن التصوير الضوئي الإبداعية والتي باتت معروفة للجميع بقدر ما يهدف هذا النص إلى الوقوف على التجربة المحلية في فن التصوير والتي يمكن أن تلخص تاريخياً بالسطور التالية:
• البداية الأولى
بدايات التصوير في سورية فردية وقديمة نسبياً تعود إلى بداية القرن الماضي – العشرون- وبالرغم من أهميتها وقدمها لم يقدر لها أن تخرج من إطار الحرفة إلا على أيد قلة من الرواد من هواة الفن والتصوير، حيث أقام البعض منهم تجمعاً غير رسمي قدموا من خلاله معارض فردية وجماعية دون أن يلتفت إليهم أحد أو يوثق نشاطهم في سجل أو كتاب… وحتى صور، إلى أن جاءت مرحلة النشاط العام في سورية وبدأت تتبلور اتجاهاته التعبيرية في الخمسينات من القرن الماضي، من نحت وتصوير زيتي وحفر، وكانت مرافقة لها مرحلة المخاض الفوتوغرافي الأول في سورية، حيث بدأت تباشير حركة فنية واعية لفن التصوير شارك فيها مجموعة من المصورين الشباب، بغالبتهم من الهواة، وكان منهم: شفيق الإمام، خالد معاذ، روبير ملكي، أمين الشريف، ووجيه السمان، ورفيق السيوفي، ونزيه الشهبندر…وغيرهم، وقدر لها أيضاً أن تشد انتباه الناس ورواد صالات الفن الناشئة بقوة إلى أهمية اللوحة الضوئية في الحركة الفنية، إلى أن تم تأسيس نادي التصوير الضوئي عام 1980 بمعرض الخمسة الضوئي (مروان مسلماني، قتيبة الشهابي، جورج عشي، صباح قباني، طارق الشريف)، وبدأت معارض التصوير الضوئي الفردية والجماعية تتوالى عاماً بعد عام إلى أن أدرج فن التصوير رسمياً في المعرض السنوي العام لوزارة الثقافة عام 1986، وكان هذا اعترافاً غير مسبوق بأهمية اللوحة الضوئية التي باتت تعرض جنباً إلى جنب مع اللوحة المرسومة والمحفورة، إضافة إلى فن النحت.
واليوم وبعد سنوات التأسيس وبنظرة شاملة على حصيلة الأسماء التي أمكنها أن تؤسس لمفهوم فني مبدع وخلاق عبر اللوحة الضوئية، بلغة معرفية عميقة المضمون والتأثير تناط بها مسؤولية إنسانية وحضارية قد لا يتيحه فن مستقبلي قادم كالذي تتيحه رؤية العدسة، وصناعة الصورة الضوئية وجماهيرية عروضها، ومتتبعيها، ببعدها العلمي والثقافي والإبداعي : نجد أن المرحلة الأولى التي ساهم فيها الكثيرون من رواد صناعة اللوحة الضوئية- وليس الصورة- قد نالهم الملل وكفوا عن العمل بإقامة المعارض المشتركة والجماعية… وحتى المشاركات الفردية، أما جيل الوسط الذي ظهر مع بداية عروض نادي فن التصوير الضوئي في الثمانينات، فقد غاب حضوره وخبا بريقه والتفت إلى مناح أخرى من العمل والحياة، وإن كان أكثرهم ما زال يحمل البذور المعرفية لفن التصوير الضوئي وينتظر غيث السماء ليغسل غبار عدسته ويعيد الوهج السابق إليها.
أما حضور اليوم في معارض التصوير الضوئي فهو بلا منازع للفئة الشابة التي أتيح لها التزود من معارف العصر المتنوعة، وبعد تأسيس عدد من المعاهد الفنية التي أدرجت فن التصوير في مناهجها، وهذا بدوره أظهر العشرات من المصورين الموهوبين والذين همّت فيهم الكثير من الحماسة والموهبة والإدراك لحسن التعلم، وإقامة المعارض الفردية والجماعية.
ولكن يبقى السؤال قائماً عن حصيلة الأسماء العديدة التي أمكنها أن تؤسس لمفاهيم مغايرة عن السائد في اللوحة أكانت في الحركة والمضمون والفكرة والمقولة… صحفياً وأثرياً و توثيقياً وإنسانياً ومعرفياً، وكان جمعهم في ملف واحد أمر شبه مستحيل فهناك جيل الرواد الذين رحل أغلبهم والجيل الثاني والذي كان له وهج متميز خبا بفعل الزمن والملل وهناك جيل الشباب وما أكثرهم وهم لا يزالون في مرحلة إثبات الذات وترسيخ شخصيتهم الفنية، فكان لا بد أن نتوقف عند أسماء بعينها كانت تجاربهم ورؤيتهم بحق مدعاة للاهتمام تشهد لهم مسؤوليتهم الإنسانية والحضارية في أعمالهم الفذة والتي روجت لها عدساتهم و قراءاتهم الفكرية للمواضيع التي قدمت في تجاربهم… وربما كانوا بذلك الأكثر عطاءاً وبعداً ثقافياً خلال أكثر من خمسين عاماً وهم ما سنتناول بعضهم في قراءتنا هذه.
• الفنان جورج عشي
مواليد ضهر صفرا (اللاذقية) 1941
يعد هذا الفنان بحق مؤسس نادي فن التصوير الضوئي في سورية وترأس إدارته عدة دورات متفاوتة الأزمنة والتواريخ، فكانت إدارته ” ما يسترو” حقيقي لهذا التجمع الفني نظم شؤونه ومنحه دفعاً قوياً أدرجه في غالبية النشاطات الثقافية والفنية على مستوى سورية والعالم، والفنان الرائد عشي متعدد المواهب فهو أساساً شاعر وفنان تشكيلي وعازف منفرد للبيانو و الفيولونسيل وكاتب وصحفي ومؤلف وله ديوانا شعر باللغة المحكية السورية… ومع كل وسائل التعبير التي يمتلكها وعبر عنها إلا أن اهتمامه بآلة التصوير التي لم تفارقه لحظة، كما فارقه البيانو والقلم مرات عدة، بل كانت اهتمامه الأكبر من خلال معارضه عن الصورة الصحفية في سورية والعالم.
لقد حازت لوحته المنفذة بالأبيض والأسود بعنوان “البائع الأعمى” على أرفع الجوائز العالمية ومنها على الأخص معرض “إنتربرس فوتو” الدولي ويبدو أن الاهتمام الخاص الذي كرسه الفنان جورج عشي للصورة الصحفية بعمق مضمونها التعبيري ودلالاتها الإنسانية قد ميزته عن أقرانه بفنية هذه اللقطات التي يصعب بل يستحيل تكرارها أحياناً وهي تسير بتوازٍ مع رؤيته التشكيلية عبر رسوماته وكتاباته.
لقد تفرد فناننا بلوحاته بالأبيض والأسود إلى قيم رفيعة من الإحساس بالآخر الإنساني وكانت عدسته المقربة “التلي فوتو” تصطاد أثمن الحالات الإنسانية النادرة في فضاءات أمكنتها الشعبية والتقليدية، مما كان يمنحها صفة أعلى بكثير من مجرد “اللقطة الصحفية” وأعمق من فضاءها المجرد بظروفه الضوئية النادرة مع الإنسان، لذلك كانت أعمال هذا الفنان المبدع تتعالى إلى مستويات فنية رهيفة الإحساس بالإنسان والمكان معاً.
وكان الأبيض والأسود سيد أعماله بلا منازع رافضاً إدخال صورة الألوان في معارضه وحتى معارض فناني التصوير الضوئي. فقوة المصور عند هذا الفنان تبرز دائماً في لوحة الأبيض والأسود. والتي كان ينفذها هو بمخبره الخاص، حتى يكون متابعاً لتشكيلها من ألفها إلى ياءها…
• الفنان د. صباح قباني
مواليد دمشق 1928
نعم… هو ذاته الشقيق الأصغر لشاعرنا الكبير الراحل نزار قباني وهو أيضاً الدبلوماسي العريق ومؤسس التلفزيون السوري قبل خمسون عاماً، الفنان الذائع الصيت وصاحب الحاسة العميقة بالتذوق الفني، وأحد أهم مؤسسي نادي فن التصوير الضوئي قبل ثلاثين عاماً، وكما عالج نزار عوالم المرأة بشعره كما السياسة، كان د.صباح قباني يعالج بفنيته الراقية العوالم الغامضة للمرأة ويلتقط رموزها بصوره في معارضه التي أقامها قبل عقود ليست ببعيدة، وكان منظراً مذواقاً لفن التصوير برؤيته الجمالية وعشقه الدائم للحديث عبره، لقد تفوق هذا الفنان المبدع في لوحته المميزة ” وعاء الحليب” عندما صور القباب الطينية في لحظة ضوئية نادرة ترتفع فيها قبتين من ريفنا السوري كنهدين مرتفعين إلى السماء وتمر عبرهما ريفيتان بردائهما التقليدي وهما تحملان جرار الحليب، لقد تحول عالم المرأة في عين هذا الفنان إلى ملحمة تاريخية وثقتها وهي آلهة أرضية وأم منجبة وراعية أغنام وسيدة مجتمع وملكة ووطن،فكانت تجربته في معرض “نشيد الوطن” – قدمه شقيقه الشاعر نزار قباني وعلق على اللوحات بشاعريته المعهودة- تحمل أكثر من رسالة شعرية باللون والموضوع والتي استثمر فيهما اللون تماما بإحساس المصور الزيتي الرسام. ورافقته كاميرته “الهزلبلاد” السويدية الصنع بعدستها الألمانية من طراز “كارل زايس” الأرقى بين سلسلة آلات التصوير، لتمتد بعينه المرهفة ومقولته الفلسفية عبر صور واقعية لا تزال راسخة في أذهان الكثيرين، ومنها على الأخص ما حققه من صور وجهية (بورتريهات) كانت المرأة فيها تطلق في عدسته إشعاعاً سحرياً وإدراكا واسعاً بعلم وفن ” الفوتوجونيك” التعبير الوجهي المعمق والعميق ونقل الإحساس بذلك إلى عين المشاهد.
• الفنان طارق الشريف
تولد دمشق 1935
لا يمكن فصل تجربة الفنان الضوئي طارق الشريف عن ثقافته ورؤيته التشكيلية، فهو ليس مصوراً احترافياً بالمعنى الدقيق للتعبير، فهو أساساً ناقد فني للحركة التشكيلية في سورية ورئيس ومؤسس مجلة الحياة التشكيلية الأسبق، كانت محاولته توجيه عدسة كاميرته إلى جوانب ومواضيع مختلفة عما اعتدنا على رؤيته في المعارض ليكون التصوير الضوئي لدى هذا الفنان، رؤية تشكيلية فنية مجردة وبغير زاوية الرؤية الاعتيادية، وهو أحد المؤسسين القلائل لفن التصوير الضوئي في سورية، تكمن أهمية تجربة الفنان طارق الشريف، بكونه يقدم أعمالاً جديدة وفق معايير تشكيلية، ليصل إلى ربط التشكيل المعاصر بالموضوع الذي إنتخبته عدسته، ونزع صفة “الصورة” عن أعماله المصورة لتصل إلى صيغة اللوحة، ولتجربته خصوصيتها التي ترتبط بسعة إطلاعه على الثقافات الفنية العالمية بحكم رحلاته وتطوافه الدائم في متاحف وصالات معارض الفن.
كان اللون محرضاً أساسياً في أعمال الفنان الشريف خصوصاً في معرضه “صور من المغرب وسورية” قبل سنوات عدة بحث فيها عن علاقات لونية حارة ودافئة وحميمية جمع فيها شطري العالم العربي بعلاقات تشكيلية متقاربة بين البلدين.
والفنان الشريف له العديد من المؤلفات والدراسات منها “عشرون فناناً من سورية، ودراسات عن الفنانين “نعيم اسماعيل” و “فاتح المدرس” ومؤلفه الخاص “الفن واللافن”، ومؤلفه “دراسة عن الفن التشكيلي المعاصر في سورية”.
• الفنان د. قتيبة الشهابي
تولد دمشق 1935- 2008
تكمن أهمية الفنان الراحل الشهابي في كتبه التي أصدرها توثيقاً وتصويراً وعملاً موسوعياً شاملاً عن دمشق، مساجدها وكنائسها وأزقتها وحاراتها وأبوابها وأسماء تاريخية مغفلة عن بنيانها المعماري والذي أزيل خلال المد العمراني في تحولات المدن التاريخية والدكتور الشهابي هو أساساً طبيب أسنان عمد في تجربته الشاقة إلى العمل بالتوثيق الأثري والتاريخي بحثاً وتوصيفاً يعد مرجعاً لكل باحث ومؤرخ في تاريخ دمشق وعمارتها.
لم تكن صورة مبهرة ولا مدهشة ولكنها لم تكن تنقصها الفنية والقيمة الوثائقية التي حرص على تسجيلها بعين واعية لما تريد وكانت البيئة والطبيعة السورية الغنية حافزاً له على تسجيل كل العناصر التي تسترعي عينه الموهوبة، ولعله أول من قام بتجارب في التصوير المجهري باحثاً في أغوار الخلايا والعينات عن الجديد والمثير تشكيلاً وتجريداً فنياً.
• العماد أول مصطفى طلاس
تولد الرستن 1932
يمكن أن تكون هذه المرة الأولى التي يندرج فيها اسم العماد “مصطفى طلاس” وزير الدفاع الأسبق بين فناني التصوير الضوئي في بحث فني، ولما لا وقد انتخب رئيساً فخرياً ودائماً لنادي فن التصوير الضوئي عند تأسيسه، فهو صديق الفنانين- متى أتيح له الوقت لذلك- وبرغم مشاغله المتعددة والمهام الجسام التي كانت ملقاة على كاهله، فبالإضافة إلى الشعر الأصيل الذي يقرضه ويقترضه في مطبوعاته، كانت آلة التصوير من أحب أطياف اهتماماته الفنية، وبالرغم من قيمتها الواسعة في العلوم والمعارف العسكرية والاستطلاع، فإنها كانت بين يديه شديدة الرهافة الفنية، وهو لم يقدم نفسه في أي معرض فني، فردي أو جماعي- لأسباب معلومة- ولكن أرشيفه الفني وتذوقه الجمالي كان بين طيفين محيبين عرفا عنه، الأول كان الأزهار والورود البرية التي أصدرها بعدسته بين دفتي مجلد ضخم تختصر شعريته الخاصة في التعاطي مع هذا الموضوع الطبيعي تسجيلاً وتوثيقاً نادراً، والثاني جميلات النساء ومشاهيرهن الذين التقى بهن في مناسبات اجتماعية بدءاً من جورجينا رزق ولا انتهاء بمارسيل حرو ملكات جمال لبنان السابقات مروراً بجين مانسون وغيرهن من أجمل نساء العالم، وأخمن أن لديه أرشيفاً إذا تم عرضه يوماً ما سيكون مدهشاً بفرادته وحساسيته ورقة صوره، والتي رحل بعضهن وأمسى بعضهن الآخر جدات عجوزات، وبعيداً عن النفاق الاجتماعي والتملق للشخصيات الرسمية والذي لا أتقنه- فهو متقاعد الآن- يمتلك العماد مصطفى طلاس أنفس وأفخر أنواع آلات التصوير في العالم بدأ من “الهزلبلاد” بسلسلتها الفريدة، (وهي الطراز التي كانت بيد أرمسترونغ عندما صور من القمر أولى الصور الخلاقة لكرتنا الأرضية عام 1969) ولا انتهاء بالألمانيتي الصنع “لايكا” و”لينهوف” وغيرهما الكثير، ومع ذلك فهو لا يؤمن أساساً إلا بعينه عندما يغبطه المصورون الآخرون بقولهم بأنه يمتلك أفخر آلات التصوير وعدساتهما في العالم قاطبة، والواقع أن العماد طلاس قام بدراسات خاصة ومعمقة ومتأنية لفن التصوير ولاحق معارف وصور أساطين هذا الفن وتعلم منهم، وعدّ “روينسون” و”ايرسون” و”واتسون” و”آنسيل آدمز” و “هاميلتون” من عباقرة فن التصوير في العالم وبأنهم لا يقلون قيمة وفنية عن عباقرة الإبداع بالريشة.
• الفنان د.مروان مسلماني
تولد دمشق 1935
كرس هذا الفنان الفذ جل عمره خلف عدسة آلة التصوير مصوراً وموثقاً مجيداً لقدراته الفنية ورؤيته الموهوبة، لقد قضى ما يقارب الأربعين عاماً في متحف دمشق الوطني مصوراً أثرياً بامتياز لا يبز باحثاً بعدسته في تفاصيلها وانتقاء أروع صورها بمعارضه التي فاقت المئة معرض في سورية والعالم.
وألحقها فيما بعد بكتبه الغزيرة والتي صدرت بترجمات عدة كما أنه كان أول رئيس لمجلس إدارة نادي فن التصوير الضوئي عند تأسيسه. أسهمت تجربة الفنان مسلماني الطويلة في خلق مساحة عريضة لفن التصوير، كفن له شخصيته الخاصة والمستقلة وهو من أوائل الفنانين الذين ألحقوا هذا الفن بالتشكيل الإبداعي بعيداً عن الحرفة وتميز بنشاطه الكثيف والمتقن في توثيق وتصوير الأوابد والآثار السورية، بحيث تعد اليوم مرجعاً وأرشيفاً متكاملاً لكل دارس وباحث في العالم وأتيحت له فرصة إقامة أهم المعارض عن الآثار السورية في كبرى متاحف وصالات العالم وهم بحمل رسالة تاريخية وقومية كبرى بالتعريف بآثارنا ونقل قيمتها المعرفية والفكرية طوال عقود إلى أقاصي الأرض.
كل ذلك لم يمنعه من الخروج حيناً عن رؤيته الآثارية ليغدو حداثياً ومجدداً في معرضه الفريد “خلجات” ” عندما قام لأول مرة بتجربة مثيرة وفريدة بالاستعاضة عن آلة التصوير بالمخبر الكيميائي لينتج صوراً ضوئية بتجريد عالٍ مع تكوين غرائبي وفني مدهش يقارب عوالم السورياليين من خلال الورق الطباعي للتصوير والأملاح المعدة للتظهير مع الضوء، ليعد بذلك مؤسساً حقيقياً لاتجاهات عميقة في فن التصوير نال عليها شهادة الدكتوراه الفخرية من ألمانيا الاتحادية عام 1968.
كما جاء بحثه الأثري في تصوير الأختام الأسطوانية من الآثار السورية تتويجاً لعمله الفني حيث قدم كشفاً أثرياً جليلاً بتعريض تلك النقوش المتناهية الدقة والتي حفرت على الأختام لإضاءة خاصة وقام بتكبيرها عشرات المرات في لوحات جدارية، لُتُقرأ هذه الرموز من قبل الباحثين بعد أن تكشفت ملامحها عن صيغ وأزياء وشخصيات أسطورية ورموز متعددة ومتنوعة كانت مجهولة سابقاً.
كل ذلك منحه عن جدارة وسام الاستحقاق السوري لأول مرة في تاريخ فن التصوير يحوز مصور في العالم العربي على هذا الوسام وهذا التقدير بمساعٍ لا تنكر من وزيرة الثقافة آنذاك د.نجاح العطار وكانت عودته من النمسا بمعرض وثائقي بعنوان “سحر وشعر” قام بتصويره هناك مفتوناً بروعة النحت والعمارة الأوربية والتي ترسم ملامح عصر النهضة ليقدمها برؤيته وعدسته التي ألهبت خيال كثير من الفنانين والنحاتين، بأن الفن لغة عالمية لا تعرف وطناً ولا حدوداً، وهو بذلك لم يقف عند حدود الآثار السورية جامداً مؤطراً داخلها، بل عمد إلى نقل المثير والمدهش منها إلى وطنه الأم.
وأسماء أخرى
كل هؤلاء هم غيض من فيض كان لهم شرف المحاولة في إدراك فنون العصر قديمه وحديثه في عدسة آلة التصوير حتى حدود المخاطرة أو الخطورة، فنجح بعضهم وأصاب، وأكمل هدفه وتعثر آخرون ولم تفلح تجاربهم على أهميتها ، أو فقدوا دوافعهم الذاتية المحرضة لتصويب عدساتهم نحو اللحظة الآسرة في مكانها الأنسب، وكانوا كثراً بكل تأكيد مع الاعتراف بموهبتهم وتضحياتهم في سبيل ارتقاء هذا الفن، وقد أكون أنا واحداً منهم.
سعد بشير فنصة